شعار قسم مدونات

المحامون المتهمون!

على المحامين أن يعملوا على إعادة تشكيل وعي المجتمعات لقبول بل تعظيم دور المحامي في الدفاع عن المتهم (الجزيرة)

لماذا يدافع المحامون عن المجرمين؟! هذا سؤال أبدي وجودي نواجهه نحن المحامين طيلة مدة عملنا في مهنة المحاماة، ليس ذلك فحسب، بل كثيرًا ما يعتبرها الناس نقيصة أو مدعاة لمسبة في حق المحامي، فيُقال هؤلاء يدافعون عن المجرمين (القتلة، اللصوص، والنصابون)، وهذه الأفعال تؤثر على نفسيات المحامين، خاصة المبتدئين، بل نجد من يترك المهنة بسبب هذا الهجوم غير المبرر.

وعندما تظهر جريمة كبيرة تشغل الرأي العام، نجد المجتمع يضع المحامي في قفص الاتهام بجوار المتهم، فتحاكم المحكمة المتهم على التهمة المنسوبة إليه، ويحاكم المجتمع المحامي الذي يمارس مهام عمله القانوني في الدفاع عن المتهم.

يبرز دور المحامي في التحقق من توافر الشرعية الإجرائية، سواء ما اتصل منها بحيدة المحقق أو بكفالة الحرية الشخصية والكرامة البشرية للمتهم ومراعاة حقوق الدفاع، وجميعها ثوابت قانونية أعلاها الدستور والقانون

إن المتهم أو حتى المجرم الثابت ارتكابه لجريمة إنسان له حقوقه القانونية، فإذا ارتكب الإنسان جريمة فلا تسلبه الجريمة إنسانيته، لذلك فإن عمل المحامي لا يقتصر على الدفاع عن المجني عليهم من الأبرياء، بل يجب عليه أن يدافع عمن أجرم أيضًا لضمان حقوقه في عدم معاملته معاملة غير إنسانية وتوفير محاكمة عادلة، وضمان سلامة الإجراءات، وسلامة تنفيذ العقوبات ضده، وعدم تنفيذ عقوبات مهينة أو عقوبات تحط من آدميته.

ويبرز دور المحامي في التحقق من توافر الشرعية الإجرائية، سواء ما اتصل منها بحيدة المحقق أو بكفالة الحرية الشخصية والكرامة البشرية للمتهم ومراعاة حقوق الدفاع، وجميعها ثوابت قانونية أعلاها الدستور والقانون وحرص على حمايتها القضاء ليس فقط لمصلحة خاصة بالمتهم، وإنما بحسبانها في المقام الأول تستهدف مصلحة عامة تتمثل في حماية قرينة البراءة وتوفير اطمئنان الناس إلى عدالة القضاء.

وقد حرصت القوانين على وجوب حضور محامٍ أمام محكمة الجنايات مع كل متهم، وذلك لضمان تقديم الدفاع الكامل والوقوف على صحة إجراءات القبض والتفتيش للمتهم من عدمه، وتقديم أدلة براءة المتهم، وذلك لتعظيم دور المحامي في ضمانة حق الدفاع ومثول المتهم بوكيل عنه لتأمين حقوق الفرد وحريته.

المجتمعات المتخلفة المعبئة بالكراهية هي التي تتعامل مع المجرم بكراهية، ولا تتعامل معه كإنسان أخطأ ويحتاج للإصلاح وإعادة الإدماج في المجتمع.

ولا تعرف هذه المجتمعات أن فلسفة العقاب تقوم على الإصلاح وليس على الانتقام، إلا في دولنا التي تقوم حقيقة فلسفة العقاب فيها على الانتقام، رغم أننا ندعي بأن فلسفة العقاب عندنا هي الإصلاح وليس الانتقام، فالمجرم بصفة عامة "مريض يستحق العلاج، قبل أن يكون متهما يستحق العقاب".

المحامون يؤمنون إيمانا راسخا بأن الأصل في الاتهام البراءة، وأنه لا بد أن يسطع نور الحق ويرتفع صوت العدالة، نؤدي واجب الدفاع من غير تأثر بالعاطفة، بل من غير تأثر إلا بالقانون

الفقه الإسلامي يرسخ مبدأ الدفاع عن المتهمين

وضع معلم البشرية محمد -صلى الله عليه وسلم- الميزان لنا، فيقول في ما ترويه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".

ولما أصر ماعز بن مالك -رضي الله عنه- على طلب إقامة الحد عليه مع توبته ليتم تطهيره، وعند رجمه لما أصابته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل بيده لحي جمل فضربه فصرعه، فذُكر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فراره حين مسته الحجارة، فقال: "فهلا تركتموه"، وهذا تصريح من الرسول الكريم لفتح أبواب العفو للمذنبين لعلهم يتوبوا ويكونوا صالحين.

وإذ إننا معشر المحامين لا يشغلنا هذا المرض المجتمعي، فرسالتنا أعظم من الوقوف عند هذه الصغائر، وإن كنا لا ننكر أنها تحتاج إلى توضيح وتغيير للصورة الذهنية، فنحن نؤدي واجب الدفاع، ولسنا بغافلين عن الدهشة والاستغراب الذي يشعر به البعض، ونحن نرى أن هؤلاء قوم مخطئون، لأنهم مندفعون تحت تأثير اعتقاد خاطئ، لأنهم خلطوا بين العدالة وبين الغضب، وهذه دعوة إلى ارتكاب جريمة أعظم جسامة وأكبر خطرًا على المجتمع وهي التضحية بالعدالة وإهدار القانون.

أما المحامون فإنهم يؤمنون إيمانا راسخا بأن الأصل في الاتهام البراءة، وأنه لا بد أن يسطع نور الحق ويرتفع صوت العدالة، نؤدي واجب الدفاع من غير تأثر بالعاطفة، بل ومن غير تأثر إلا بالقانون، ولا نصير لنا إلا ما ننتزعه من الأوراق، ولهذا فلا بد للمحامي أن يتحلى بالصبر ليستجلي الحقيقة كاملة.

ولكن على المحامين أن يعملوا على إعادة تشكيل وعي المجتمعات لقبول بل تعظيم دور المحامي في الدفاع عن المتهم، من خلال مقالات صحفية وبرامج تليفزيونية وندوات ومحاضرات في الأماكن المختلفة، بل على الأجهزة الإعلامية أن تساعد في هذا الأمر فالتخلص من الأمراض المجتمعية واجب حقيقي على الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.