شعار قسم مدونات

حول الصعود الإستراتيجي.. تركيا نموذجا

الرئيس الأميركي تحول من مناهض للرئيس أردوغان (يسار) وداعم لخصومه السياسيين في الانتخابات الأخيرة إلى كونه يتطلع للتعاون معه خلال السنوات الخمس القادمة (أسوشيتد برس)

ماذا طرأ على نظرة دول حلف شمال الأطلسي لتركيا خلال القمة الأخيرة للحلف في ليتوانيا؟ ولماذا تحولت تركيا إلى نجم للقمة بعدما كانت مدفوعة عن أبواب الاتحاد الأوروبي، وأصبحت الآن أقرب للانضمام إليه من أي وقت مضى؟

في العلاقة مع الآخر دوليا أو سياسيا وحتى شخصيا تتنوع نظرة الآخر أو المحيط إلى الدولة المعنية إلى أحد 6 تصنيفات، وبناء عليه تتشكل المواقف تجاهها:

  • أولا: إذا نظر الآخر أو المحيط إلى الدولة المعنية على أنها عدو فسيحاربها أو يتفاعل معها بعدوانية حسب قدراته وإمكاناته.
  • ثانيا: إذا نظر إليها كعدو محتمل أو يشتبه بعداوتها تعامل معها بحذر شديد وحاصرها وضيّق عليها وراقبها ونشر جواسيسه فيها.
  • ثالثا: إذا نظر إليها على أنها محايدة عاملها برقابة أقل أو همشها.
  • رابعا: إذا نظر المحيط إليها على أنها موثوقة لا يتوقع منها ضررا أو عداوة ويمكن أن تجلب له بعض المنافع والمزايا تفاعل معها بإيجابية وتبادل المصالح معها.
  • خامسا: أما إن أدرك أنها ذات مبادرات وفوائد إستراتيجية له دعمها بالمقابل وتحالف معها.
  • سادسا: إذا نظر إليها الآخر كدولة أو كجزء من المجتمع أو كشخص ذي إنجازات ضخمة أو عظيمة فإن هذا الآخر سيسعى لا ليتحالف معك ويتسلق على إنجازاتك فحسب بل سيكون مستعدا ليعمل تحت قيادتك.

هذا السلَّم الذي أقدمه من التصنيفات وتقدير المواقف وردود الأفعال تجاهها له قدر كبير من المصداقية من الناحية العملية، ليس على المستويات الدولية والإستراتيجية والسياسية فحسب، ولكن في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية أيضا، وفي هذا الطرح تفاصيل وشجون يضيق هذا المقال المحدود عن التوسع فيها.

لا شك أن تحركات وتكتيكات تركيا الذكية والإستراتيجية واليقظة مكنتها من هذا الصعود، ومنها الوساطة بين روسيا وأوكرانيا والتوصل إلى اتفاق تصدير الحبوب، والتي قد تؤدي إلى وساطة لوقف الحرب

وبالنسبة لعلاقات تركيا مع أوروبا والغرب فقد تسلقت تركيا عددا من درجات هذا السلَّم في ظروف صعبة خارجيا وعصيبة محليا ولكن مجريات قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة تشير إلى أنها -حتى الآن- قد تجاوزت وتعالت عن الدرجات السلبية في هذا السلَّم واتجهت نحو الأعلى في صعود إستراتيجي لافت.

لا شك أن تحركات وتكتيكات تركيا الذكية والإستراتيجية واليقظة مكنتها من هذا الصعود، ومنها الوساطة بين روسيا وأوكرانيا والتوصل إلى اتفاق تصدير الحبوب، والتي قد تؤدي إلى وساطة لوقف الحرب، ودعوة رئيس أوكرانيا إلى إسطنبول قبيل القمة ودعوة الرئيس الروسي إلى أنقرة الشهر القادم في خطوات جعلت تركيا الدولة الوحيدة حتى الآن التي تستطيع أن تتكلم مع طرفي النزاع.

وكذلك إدارة المائدة مع الغرب في موضوع الإرهاب والتحكم في ملف انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي واشتراط تركيا عليهما التوقف عن دعم الإرهاب وإرغام الحلف على تبني تعريفها للإرهاب.

وأخيرا، طرح موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بقوة عشية قمة الحلف الأطلسي، والتي جعلت أميركا وبعض الدول الأوروبية تؤكد موقفها من دعم انضمام تركيا أو الحوار بشأنه، وتحول الرئيس الأميركي من مناهض للرئيس أردوغان وداعم لخصومه السياسيين في الانتخابات الأخيرة إلى كونه يتطلع للتعاون معه خلال السنوات الخمس القادمة، كل هذا يشير إلى تحقيق تركيا صعودا إستراتيجيا غير مسبوق على الساحة الدولية.

هذا الصعود الإستراتيجي لم يكن ليتحقق دون عناصر القوة الإستراتيجية الأساسية لأي دولة، ومنها الموقع الإستراتيجي والاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي والتقدم العلمي والصناعي والنزاهة في الاستثمار

ولا يعني هذا أن الغرب ليس له غرض ومصلحة من التعامل الإيجابي مع تركيا في هذه الحقبة، فهو أيضا لا يريد لروسيا أن تختطف تركيا بعيدا عن حلفها، والغرب يدرك أن الحرب الدائرة وضعته في مأزق وجودي إذا تحولت إلى حرب نووية ويحتاج إلى كل القوى المتاحة حوله ليخرج فائزا أو سالما على أقل تقدير، خاصة أن العالم يتحول تدريجيا من عالم أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب.

ومن مصلحة تركيا بل والعالم بأسره أن تلعب دورا حاسما في حماية العالم والإنسانية من عبث نووي آخر ومن احتكار الدول الكبرى قرارات الحرب والسلم في هذا العالم الذي هو فعلا أكبر بكثير من 5 دول.

وصحيح أن هذه المهارة والتكتيكات قفزت بتركيا إلى الأعلى في السياسة الدولية، ولكن هذا الصعود الإستراتيجي لم يكن ليتحقق دون عناصر القوة الإستراتيجية الأساسية لأي دولة، ومنها الموقع الإستراتيجي والاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي والتقدم العلمي والصناعي والنزاهة في استثمار الموارد المالية وحسن استغلال الموارد الطبيعية والبشرية وتقليص التوترات الداخلية والخارجية قدر الإمكان.

ولا يعني هذا أن تركيا خالية من التحديات، فلديها من ذلك العديد ولكنها تجهد بشكل مستمر لإيجاد الحلول لمشكلاتها والخطط لتفكيك التحديات التي تواجهها.

إن هذا الصعود الإستراتيجي لتركيا في الساحة الدولية ملهم لمنطقة الشرق الأوسط والدول العربية والإسلامية لتتظافر بمجموعها لتحقيق صعود إستراتيجي أكبر يؤهلها لتكون قطبا أو أقطابا تشارك بفعالية في قيادة العالم والإنسانية نحو بر الأمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.