شعار قسم مدونات

في سحر الكلام.. عن أحمد فؤاد نجم

الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم (الجزيرة)

الذين امتلكوا موهبة التعبير، بالشعر خاصة، أو بكافة الفنون يحظون بميزة لا يحظى بها أعظم الساسة أو المفكرين وآخرين، مهما كان تأثير هؤلاء الآخرين في الناس في زمانهم أو في أزمان أخري تالية، رغم أن الشاعر قد يعيش حياته في اتجاه يعاكس اتجاه قصائده التي يحبها الناس أو سيحبونها في قابل الأيام، إذا  أخذنا المتنبي مثالا، وهو من يرى البعض محقين أنه كان وما زال أعظم شعراء العربية، فإن حياته تظهر أنه كان شاعر بلاط من الطراز الأول، بكل ما في هذا المعنى من سلبيات، وربما مدح بمعظم قصائده هملا من الأمراء والقادة، فخلد لهم في التاريخ مآثر لم يفعلوها، ورفع شأنهم على من هم أفضل منهم بكثير ممن هبط هجاؤه لهم بهم إلى دركات شديدة الانحطاط.

ومن يقرأ للمتنبي اليوم يردد حكمه ويستعين بقدراته الوصفية في المديح والهجاء فإنه لا يحاكم تاريخه ولا تاريخ دوله وملوكه، بقدر ما يعبر ببلاغته عن أحلام وأوهام عصر من استعار الأشعار واستدل بها، انظر مثلا هجاءه لكافور فأنت اليوم تستطيع أن تهجو به أي حاكم بمصر أو بغيرها إذا ظهرت منه دكتاتورية، رغم أن دوافع المتنبي لهجاء كافور كانت غير موضوعية، ويرى كثير من المؤرخين أن كافور كان أفضل من سيف الدولة الذي حظي من شعر المتنبي ما لو كان مستحقا له لكان أعظم قادة العالم.

كنت أعيش في مصر وكانت أشعار نجم ترطب قلوب الخائفين أن يستخدموا ألسنتهم ضد تزوير النظام وإطاحته بكل قيم الشعب، وتاريخ حروبه مع الصهاينة

تمر بخاطري هذه الأفكار وأنا أتابع ما يكتبه الناس عن أحمد فؤاد نجم، وخاصة بعد كتاب ابنته نوارة نجم "وأنت السبب يابا". يقول البعض صادقين إنه كان قيثارة البسطاء، ويرى آخرون أن مواقفه من مبارك وضد مرسي وتأييده غير المتحفظ للسيسي تجعله مُدانا وتطيح بكل ما كان يتناشده ضد الدكتاتورية، ولهؤلاء أيضا حق، آخرون يرون في ما يروي عن بوهيمية حياته ما يدين كل مثقف بالابتذال غير المقبول.

ولكن هل يُحاكم أمثالُه إلى المقاييس نفسها التي يحاكم بها آخرون، على ما في ذلك من خروج على عدالة المساواة في الحساب، ولعل البعض يستدل بأن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم قد تعلل لنعيمان الصحابي الذي حُد لشربه الخمر أكثر من مرة، لاحظ صلى الله عليه وسلم تقليل بعض الصحابة له فقال: "إنه كان يضحك رسول الله"، طالبا من صحابته التماس العذر لنعيمان ليُعاد تأهيله لمجتمع حريص على الفضيلة.

في مطلع الثمانينيات كنت أعيش في مصر وكانت أشعار نجم ترطب قلوب الخائفين أن يستخدموا ألسنتهم ضد تزوير النظام وإطاحته بكل قيم الشعب، وتاريخ حروبه مع الصهاينة، وكنا نعجب بشجاعته وتردده على السجن دفاعا عن مبادئه، اختلطت مشاعري نحوه، لكنني بقيت أجد شعره أقوى معبر عن المحرومين من ألسنتهم ومن إنسانيتهم، ولو ذهبت أسرد بعض أشعاره التي ستعيش ما عاشت العامية المصرية، لوجد فيها -حتى من يقفون موقفا معاديا له- الكثير من السلوى.

تأمل أبياته التالية التي عبر فيها عن إدانته للمثقفين القاعدين عن الكفاح إلا من كلام مليء بالانتهازية، فهذا المثقف على مقهى ريش:

"محفلط مزفلط كتير الكلام

عديم الممارسة عدو الزحام

بكام كلمة فاضية وكام اصطلاح

يفبرك حلول المشاكل قوام

يعيش المثقف يعيش يعيش يعيش"

ألا يقال هذا الشعر اليوم في إدانة كثير من المثقفين الذين شرعنوا لعودة دكتاتورية العسكر، بلى. سينسى الناس موقف نجم الذي يدينه كثيرون وسيظل هذا الشعر عابرا للزمن في كل لحظة تاريخية مشابهة.

قصيدته الشهيرة "نيكسون بابا"، التي انتقد فيها الحفاوة البالغة بزيارة الرئيس الأميركي، باعتباره بابا لتدفق المعونات والنعيم المقيم، فقد قرر نجم أن يلقي بكرسي في السيرك، ويحول الفرح إلى مأتم

بعد هزيمة 1967 أصبحت قصيدة نجم التالية أيقونة الغاضبين على ناصر ورفاقه، وعبرت أصدق تعبير عن خيبة الأمل في حكم العسكر:

"الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا

يا محلا عودة ظباطنا من خط النار

وكفاية أسيادنا البعدا .. عايشين سعدا

بفضل ناس تملا المعدة .. وتقول أشعار

أشعار تمجد وتماين .. حتى الخاين

وإن شاء الله يخربها مداين .. عبد الجبار"

وغني عن القول أن عبد الجبار هنا كان يومها عبد الناصر، ويمكن أن يكون أي فرعون سواه، و في أي عصر حتى لو كان فيه ضعف حيلة الجنرال ميشال سليمان.

أما قصيدته الشهيرة "نيكسون بابا"، التي انتقد فيها الحفاوة البالغة بزيارة الرئيس الأميركي، باعتباره بابا لتدفق المعونات والنعيم المقيم، فقد قرر نجم أن يلقي بكرسي في السيرك، ويحول الفرح إلى مأتم:

"عزموك فقالوا تعالى .. تاكل بونبون وهريسة

قمت أنت اكمنك مهيف .. صدقت أن احنا فريسة

طبيت لحقوك بالزفة .. يا عريس الغفلة يا خفة

هات وشك خد لك تفة .. شوبش من صاحب البيت"

يعني لو قيلت القصيدة اليوم في الحديث عن القوى التي وعدت المصريين بالكثير من المكاسب لتغريها بخلع فلان وتثبيت فلان، ثم عادت اليوم تمتن عليه بالقليل الذي دفعته، لكانت القصيدة بالغة الصدق، وستبقى كذلك للزمن، دعك من موقف نجم نفسه.

مهما اختلفنا على نجم أو حتى على المتنبي، فلا بد أن نتفق على أن سحر البيان عابر للأزمنة والقارات، وللأحزاب السياسية ولأصحابها أيضا

والآن تعال معي إلى هذه القصيدة البديعة رغم بساطة كلماتها التي تجري على لسان كل أمي فضلا عن صاحب القول:

"هنا شقلبان .. محطه إذاعه حلاوه زمان

يسر الإذاعه .. وما يسركوش

بهذه المناسبة .. وما بندعيكوش

نقدم إليكم .. ولا تقرفوش

شحاته المعسل .. بدون الرتوش

شبندر سماسرة بلاد العمار

معمر جراسن للعب القمار

وخارب مزارع .. وتاجر خضار

وعقبال املتك .. أمير الجيوش

ما تقدرش تنكر .. تقول ما اعرفوش

ما تقدرش ايضا .. تقول ما اسمعوش

شحاته المعسل .. حبيب القلوب

يزيل البقع .. والهموم والكرب

يا نفس .. يا فين .. يبلغ حبوب

ويفضل يهلفط .. ولا تفهموش

وتفهم ما تفهم .. دا ما يهمناش"

شحاته هذا لم يكن إلا الرئيس الذي قلب الطاولة بعد عبد الناصر، ولكنها تصلح لهجاء كل رئيس وفي كل زمان، ولو قلتها اليوم في أي بلد عربي لأضحكت الناس على الرئيس.

مهما اختلفنا على نجم أو حتى على المتنبي، فلا بد أن نتفق على أن سحر البيان عابر للأزمنة والقارات، وللأحزاب السياسية ولأصحابها أيضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.