شعار قسم مدونات

نجاحات السوريين في المهجر الألماني!

شارع العرب في برلين (الجزيرة)

لا تكاد تمضي فترة قصيرة عن آخر مدونة معكم حتى يحط الرحال بي مجددا من خلال تلك المدونة، تتجلى فحواها بذروة الشفافية عن حقيقة ما أراه من مشاهد في غربة الحياة، وبأكثر عمقا مما نشاهده عبر القنوات التلفزيونية أو نسمعه عبر الإذاعات.

غالبا ما يدور الحديث بين الناس عن سحر أوروبا، وكوني في ألمانيا فإن وصف السحر عنها غير كافٍ، إن هذا السحر بالنسبة لي مزدوج ومختلف، فهناك سحر الشعور بأنك فيها وسحر الشعور بأنك منها، والأخيرة كانت وما زالت الهدف الأسمى للجالية السورية.

في غمرة الحياة رصدت سلوك البشر من حرية ومسؤولية في آن واحد، خاصة حين نبتعد عن أنفسنا نرى ما بداخلنا بشكل مختلف، ففي القارة العجوز لا نرى فقط مدنا وشوارع وأبنية، بل نرى أيضا ثقافات وواقعا يثير فينا الريبة أحيانا والانبهار أحيانا أخرى، وقد يدفعنا للبحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين بقاع الأرض، لكن الأكيد أن حواسنا يصيبها الانتعاش، ونفوسنا تصبح أكثر ثراء، ومداركنا تتسع مع أشكال قصص الناس في العوالم المختلفة حولنا.

فعلى سبيل المثال تعد الجالية السورية المكونة من 2.5 مليون سوري في ألمانيا من الدعائم المرتكزة فيها رغم الاختلاف وبشكل كبير في الثقافة والتقاليد واللغة والأسلوب الحياتي، لكن المثير للاهتمام نهوض السوريين وتفاعلهم بشكل مستمر وتأثرهم بالحياة هنا مع مرور الوقت.

على الصعيد التجاري وعند النزول للشارع تشاهد في بعض المناطق محلات تجارية سورية وما بين محل سوري وآخر لا تستغرب أن يكون هناك أيضا محل سوري

ما يسعدني حقا نجاح تلك الجالية الباهر والمخيف بسرعته عن باقي الجاليات هنا، وبدون أدنى شك فقد أصبحت الجالية السورية في المركز الأول بالمجال الطبي من خلال أعلى نسبة أطباء في ألمانيا، وكأعلى نسبة مثقفين أسوة بباقي الجاليات، الكثير من الشباب السوريين يقبلون في الآونة الأخيرة على التخرج في الجامعات الألمانية، ومنهم الكثير من انتهوا بالفعل من التأهيل المهني وانخرطوا في العمل، والكثير الكثير منهم من يعملون في مجالات مختلفة.

وما يسعدني ويشرفني تدوينه هو وصول سورية إلى نهائي مسابقة أشهر عارضي الأزياء هنا، وسوري حصل في الآونة الأخيرة على جائزة المركز الأول كمصمم للأزياء، وسوري آخر حصل على المركز الأول لمسابقة أشهر طباخ.

أما في الرياضة فأفضل لاعبي كرة القدم في بروسيا دورتموند أيضا سوري، وفي الإعلام هناك كادر كامل ومتكامل لقناة "دويتشه فيله" من مذيعين وصحفيين أيضا، وبكل فخر معظمهم من الجالية السورية.

أما عن نجاح المهندسين وإنجازاتهم فأحتاج مدونة خاصة لكي لا أبخسهم حقهم.

وعلى الصعيد التجاري وعند النزول إلى الشارع تشاهد في بعض المناطق محلات تجارية سورية، وما بين محل سوري وآخر لا تستغرب أن يكون هناك أيضا محل سوري، وجمعيها أثبتت علو كعبها في العمل التجاري.

وهذا إن دل على شيء فإنه يدل في المقام الأول على الأسباب والأهداف والظروف المسببة لهذا السبب، فالجرح السوري لم يلتئم بعد.

المحرك الجبار الذي يدفعني إلى الأمام في كتابة الحقائق ليس قصص الجالية السورية فحسب، بل تلك التي اقترنت بالمآسي، قد نتذمر من الحال الذي أوصلنا إلى هنا أحيانا ولكن حقيقة المستقبل نابعة من فهم الذات وأهداف النفس، والتغيير نحو الأفضل لا ينطلق من نظريات أو أحلام أو بالمعونات الاجتماعية التي كلنا حصلنا عليها في بدايات وجودنا، هذه المفاهيم العابرة بين الناس هي من جعلت بعض الجاليات منحدرة المقام والسمعة في أوروبا.

الغربة وزر ثقيل نحمله على أكتافنا، ففيه سجل أخطائنا وخطايانا، ومن خلاله نحدد هويتنا وتاريخنا وسمعتنا

بعيدا عن ذلك نرى أثر العولمة كبيرا هنا في ألمانيا، وبعد الحرب العالمية الثانية تحديدا أصبح كل شيء حولنا أجنبيا، البيوت مستوردة، الطاقة مستوردة، كل شيء غير ألماني باستثناء ربما السيارات، فأغلب الأشياء من البلاد المجاورة، البيوت قاسية كمخازن السلاح، والدرج لا يليق سوى بالأحذية العسكرية، حيطان عالية وأبواب شامخة تشعر حين تدخلها أنها تنتظر رجلا سوف يصدر الأوامر ويوزع المهام.

أما عن الشوارع والطعام وسلوك الناس فأشبه بامرأة جميلة ترتدي في كل الأحوال ملابسها التقليدية بلا مساحيق شرقية ولا مجوهرات باهظة الثمن، تبتسم دائما بثقة بجمالها الحقيقي ولا تقلد أحدا، وهذا ما يثير دهشتي، التمسك بالهوية في كل تفاصيل الحياة اليومية.

هنا التدين حقيقي ولا يتاجر أحد بالدين، في سوريا ولعقود طويلة ترفع شعارات التدين في أكثر المجالات السياسية والمهنية، يألفون شعارات تزرع مضامينها من خلال ألسنتهم وتحرث لتبجيل الطغاة، أما هنا فيخجلون من التدين الظاهري، كنائسهم فارغة من المصلين وكأنها أرملة الحروب ومسرح الذكريات.

الغربة وزر ثقيل نحمله على أكتافنا، ففيه سجل أخطائنا وخطايانا، ومن خلاله نحدد هويتنا وتاريخنا وسمعتنا، أما عن قلمي فسيشارك دوما نجاحات السوريين حتى وإن أخفوها إعلاميا، سأكتب الواقع دون زيادة أو نقصان وباقتضاب، وكتاباتي تلك لن تنتهي إلى هذا الحد، فلا شيء أجمل من ابتسامة كفاح الظهور من بين الدموع.

رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.