شعار قسم مدونات

رؤية منهجية في التفاعل الحضاري (1)

وفُتحت القسطنطينية.. هكذا صوّر ياقوت الحموي ياقوتة الحضارات الوثائقية
كلما كان المستوعب مشتبكا مع واقع الحضارة، كانت قدرته على الاستيعاب أفضل بخلاف من يحاول فهم النموذج الحضاري نظريا وبدون تعاطي معه من ميدان الممارسة والمعايشة (الجزيرة)

لا شك أن سؤال التعامل مع حضارة الآخر لهو سؤال قديم جديد، وكذلك سؤال المنهجية المصاحبة له والتي -في مجملها العام وفي سياقها التاريخي تحديدا- اتخذت 3 اتجاهات: اتجاه تراثي محصن فيه تمترس حول القديم ومجافاة للجديد وذلك بأشكال تختلف في حدتها حول هذا التمترس، واتجاه حداثي محض يدفع في اتجاه تبني هذه الحضارة الأخرى الجديدة، وذلك أيضا بدرجات مختلفة في هذا الدفع، واتجاه ثالث حاول المزج بين سابقيه زاعما معرفته بخير الخيرين وشر الشرين، فيأخذ من هذا بقدر ويأخذ من ذاك بقدر؛ في محاولة لتقفي النافع وتنكب الضار، وهو ما يعرف بمشكلة الأصالة والمعاصرة المشهورة.

ثم تلا هذا النقاش دعوة رابعة، خاصة بعدما تبين أن هذه الطرق الثلاثة لم تؤدِ إلى أي بعث حضاري أو دفع حقيقي لهذه الأمة لتعيد إنتاجها الحضاري، وتمثل هذا الاتجاه في الدعوة إلى إبداع حضاري منطلق من استيعاب قيم الأمة وتراثها ومناط هذه القيم ومواطن الإبداع في المنتجات الحضارية التراثية السابقة، ثم الاشتباك الزماني والمكاني مع الواقع ليؤسس لجديد أو يصلح قائما أو يبدأ طريقا مخالفا مغايرا لهيمنة الحضارة الآنية من خلال فعل حضاري مراكم في حركته، إنساني في تعاطيه، قيمي في منطلقه، واقعي في مستهدفه، فيعكس خصائص هذه الأمة المتشكلة والحاملة لهذا الدين الذي استخلفنا في هذه الأرض لنصلح وننتج مثل هذه الحضارة.

هذا الاتجاه الجديد وإن بدا مبشرا وقابلا ليكون دافعا للإنتاج الحضاري، ولكنه ما زال يعاني من عمومية وضبابية تدعو لأن يكون التفصيل المنهجي والتوضيح التنزيلي هما الخطوتان اللازمتان لنمضي قدما في هذا الاتجاه.

والمنهجية هنا تعني المقاربة العامة والإطار المعرفي الضابط والموجه لحركة الفعل الحضاري إبان تعامله مع الحضارة الأخرى، وكذلك الكيفية العامة لتوليد الأفكار والآليات المبدعة والجديدة أثناء هذه الحركة، أما التوضيح التنزيلي فهو يختص في رسم طريق العبور من عالم الأفكار والقيم إلى واقع الزمان والمكان، ويوضح صور الاشتباك المختلفة في الميادين الحضارية المتعددة من علوم وفنون وغيرها مع بيان للأدوار المتوقعة من عناصر الأمة المختلفة.

في هذا الإطار فإن هذه المقالات هي محاولة لطرح بعض من هذه المنهجيات وبيان لمقترحات تتعلق بالكيفيات والتوضيحات التنزيلية في عمليات الاشتباك الحضاري المبدع والمؤسس على هذا المسار الرابع سالف الذكر. وتحديدا سوف نقدم لمنهجية "الاستيعاب والتجاوز" كآلية للتعامل مع المنتج الحضاري للآخر، فنوضح ما المقصود بالاستيعاب ثم التجاوز وما مميزات هذه المنهجية ثم أمثلة لعقليات تجلت فيها هذه المنهجية الحضارية.

ويتبع الحديث عن منهجية الاستيعاب والتجاوز مجموعة أخرى من المقالات تتناول دور "رجال المعابر" والذين يرسمون الخرائط، وبيان كيفيات عملية العبور بمنهجية الاستيعاب والتجاوز من عالم الأفكار إلى أرض الواقع في عملية حضارية منتجة، فتبين من هم هؤلاء الأفراد أو الجماعات وما خصائصهم وطبيعة دورهم في قيادة الحراك الحضاري وأنواعه مع أمثلة أيضا من التاريخ والواقع.

وهكذا نرجو أن تكون هذه المقالات خطوة للأمام في اتجاه بيان وتوضيح هذا المسار الحضاري الرابع والقائم على إبداع حضاري مؤسس على قيم أصلية مشترك مع الزمان والمكان، ولعلها تفتح كذلك بابا للحوار بين كوادر وأفراد الأمة على أرضية عملية تنزيلية تتشكل تفاصيلها على حسب كل مجال وتخصص في سعي وكد لبحث حضاري جديد ما أحوج الإنسانية إليه.

الحذر من الاستلاب الحضاري، ومقصوده هنا هو أن تتحول حالة الاستيعاب إلى تبعية فكرية، حيث يقوم المستوعب -بدون أن يدرك- بالتفكير من خلال النموذج المعرفي لحضارة الآخر

ما المقصود بالاستيعاب في منهجية التفاعل الحضاري؟

الاستيعاب هنا إجمالا يعني قدرة الشخص على فهم النموذج الحضاري القائم، بحيث يمكن تفكيك منتجاته ورصد تجلياته وربطها بقيمه الأساسية ورؤيته الكونية ومن ثم الحكم مرة أخرى على هذه المنتجات والتجليات وفق قيم هذا الشخص الذي يروم استيعاب النموذج الحضاري حكما إما بالتبني أو الترك أو الاستفادة أو البناء عليه أو المقارنة أو الاستشكال أو ببعض من هذا أو بمزيج من كل هذا.

ولنجاح هذه العملية الاستيعابية ينبغي مراعاة أمور، أولها: أنه كلما كان المستوعب مشتبكا مع واقع هذه الحضارة، كانت قدرته على الاستيعاب أفضل بخلاف من يحاول فهم النموذج الحضاري نظريا وبدون التعاطي معه من ميدان الممارسة والمعايشة.

ومن المعلوم ضرورة أنه يبعد أن يشتبك كل إنسان مع كل مناحي حضارة ما، بل أحيانا يكون ذلك خطرا على قيمه وإنسانيته، ولكن المقصود هنا هو الاشتباك الواعي الإيجابي الفاعل في مساحات تسمح بفهم النموذج أو منتجاته مع توازن قيمي وفاعلية اجتماعية.

الأمر الثاني هو الحذر من الاستلاب الحضاري، ومقصوده هنا هو أن تتحول حالة الاستيعاب إلى تبعية فكرية، حيث يقوم المستوعب بدون أن يدرك بالتفكير من خلال النموذج المعرفي لحضارة الآخر، وتبعية شعورية يتعلق من خلالها بقيم حضارة الآخر ويعتبرها قيما عليا مهيمنة، وأخيرا تبعية استهلاكية؛ بمعنى قيام كل شؤون الحياة على منتجات ومخرجات الآخر الحضارية.

أما الأمر الثالث من ضرورات الاستيعاب فهو الوقوف على أرضية من عدم التحيز والعدالة حين محاكمة النموذج الحضاري الآخر أمام قيم المستوعب، ونعني بهذا التماس الحق الموجود في النموذج المعرفي والمادي القائم في الحضارة بدون أحكام مسبقة أو استبطان نتيجةٍ يود أن يؤول إليها؛ انتصارا لنموذجه الحضاري، أو ظنا منه أن الحق حكر على جماعة أو دين ومجموعة بشرية بعينها، فهذا الحيف طالما غبش على قدرة الفرد على الاستيعاب الحقيقي لمنجزات حضارية صالحة أو خلطه بين النافع والضار فيحرم ميزة الاستيعاب الأساسية وهي التعلم والبناء، وهنا يجب الإشارة إلى أن من لوازم العدل في مرحلة الاستيعاب، القدرة على تحديد هذا الحق المفيد والباطل الضار، وهو أمر عسير لأنه لو كان جليا سهلا لتعلمت كل الأمم من سابقتها وتسارعت وتيرة التبدل الحضاري، ولكن معلوم أن هذا الاستيعاب للحق والباطل في نموذج ما يحتاجه -بالإضافة إلى العدل الذي أشرنا إليه- يحتاج إلى صبر ومصابرة وبصيرة وحكمة على مستوى الأفراد والمجموعات وهذه أمور على صعوبتها، فإنها لازمة للانتقال من الاستيعاب الصحيح إلى بدايات التجاوز.

التجاوز الحضاري هو حركة للأمام مثقلة بالزخم الحضاري السابق لها ولكنها خفيفة في مرونة حركتها الإبداعية، حرة من أسر أي نسق يخالف أرضيتها القيمية ولكنها لا تتجاهل واقعها الزماني والمكاني وتشتبك معه

ما المقصود بالتجاوز في منهجية التفاعل الحضاري؟

يناقض مفهوم التجاوز هنا ظاهرة الاستلاب الحضاري، حيث يدعو إلى عدم الوقوف عند النموذج الحضاري للآخر والتعاطي معه في شكل مستهلك أو مستعد، وإنما الانطلاق من واقع الاشتباك الزماني والمكاني مع هذا النموذج الآخر بعد استيعابه؛ لينتج إنسانُ الحضارة فعلَه الحضاري الخاص به والمتشكل وفق قيمه ومنطلقاته؛ مستفيدا -كما بيّنا- مما استوعبه، فيضيف أو يصلح أو يبني عليه، ولا غضاضة أيضا أن يجافيه تماما ليتفادى مزالق هذا النموذج أو خطاياه في بعض المجالات.

إن التجاوز في هذه المنهجية هو حركة دؤوبة تتميز بالحرص على عدم "التشكل الحضاري الكاذب" كما قال المؤرخ الحضاري "شبنجلر" حين وصف حركة أمة حضاريا؛ ولكن داخل إطار حضارة قديمة، أو عدم "التركيم المادي" كما أشار "مالك بن بني" إبان حديثه عن إخفاق الأمة في إنتاج واستهلاك منتجاتها والعدول عن ذلك لاستهلاك منتجات حضارة المستعمر أو تفادي ما سميناه في مقال سابق "الوهم الحضاري"؛ حيث تنطلق طاقات أمة ما وهي تظن أن ما تنتجه هو فعل حضاري خاص بها لوجود مسحة دينية أو قيمية خاصة بها تعلوه بينما هو في أصله امتداد لنسق حضاري مخالف تمكّن من السيطرة على عقول أمم أخرى تخدمه وتبسط منتجاته وأفكاره ليس فقط بدون أن تدري بل تظن أنها تفعل خلاف ذلك.

هذه الأنماط تكشف عن تحديات ما سميناه "التجاوز" في هذه المنهجية؛ لأنه يقتضي إبداعا يمازج بين استيعاب القائم مع عدم التقيد به أو الوقوع تحت تأثيره ثم القدرة على تحديد مسار التعامل في ضوء الزمان والمكان مع المنتجات الحضارية للآخر في المجالات المختلفة ما بين استبدال أو تحسين أو تكميل أو إبداع ما هو جديد تماما.

هذا التجاوز أمام هذه الخيارات لا بد له من بوصلة توجه في هذه المسارات؛ وتلك البوصلة ما هي إلا المنظومة القيمية والرؤية الكونية الحاكمة للأمة التي تبتغي أن تسير في هذا الكد الحضاري وتضيف إلى حركة الحياة.

إن التجاوز الحضاري هو حركة للأمام مثقلة بالزخم الحضاري السابق لها ولكنها خفيفة في مرونة حركتها الإبداعية، حرة من أسر أي نسق يخالف أرضيتها القيمية ولكنها لا تتجاهل واقعها الزماني والمكاني وتشتبك معه.

إن التجاوز بعد الاستيعاب هو حفاظ على المسيرة الحضارية السابقة والدافع لدورتها التالية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.