شعار قسم مدونات

ما لم يكتبه شوقي شعرا

أحمد شوقي
أحمد شوقي (الجزيرة)

"إنما هي كلمات اشتملت على معان شتى الصور، وأغراض مختلفة الخبر جليلة الخطر، منها ما طال عليه القِدم، وشاب على تناوله القلم، وألمّ به الغفْل من الكتّاب والعَلَم. ومنها ما كثر على الألسنة في هذه الأيام، وأصبح يعرض في طرق الأقلام وتجري به الألفاظ في أعنة الكلام".

بهذه الكلمات، قدّم أمير الشعراء أحمد شوقي لكتابه النثري الوحيد الذي ألفه في حياته. وليس هذا المقال تسليطاً للضوء على شاعر مغمور أو كاتب لا يعرفه الناس، بل الحديث عن جانب غير مشهور في إنتاج فكري مشهور ومعروف. فالشاعر الذي لُقب بأمير الشعراء وكتب حوالي  24 ألف بيت من الشعر، والعديد من المسرحيات والروايات، قد خط كتابا من النثر لا تعدل حلاوته وعذوبته إلا حلاوة ما كتبه في أشعاره التي تحفظها الأجيال حتى بعد مرور قرابة القرن من الزمان عليها.

كان "أسواق الذهب" آخر ما رآه شوقي في حياته من إصداراته، فقد طُبع الكتاب عام 1932، وهو نفس العام الذي رحل فيه شوقي وقد جمع فيه كل ما كتب من فصول نثرية على طريقة المقامات طوال 28 عاما من حياته الأدبية

إنّ المتتبع لجل ما يكتب عن الإنتاج الأدبي لشوقي يجد أن التركيز كله كان على أشعاره، في حين أنه قدّم إنتاجا نثريا في قوالب مسرحية وروائية متعددة، وكان آخر ما تم إنتاجه نثرا لشوقي هو كتابه "أسواق الذهب" الذي سنعيش معه في هذه المقالة ابتداء من عنوانه.

لقد اختار شوقي لكتابه النثري عنوان "أسواق الذهب"، متأثرا بعناوين كتب نثرية قديمة مشابهة لما جمعه في كتابه للزمخشري والأصفهاني، فقد كتب الزمخشري كتابه بعنوان "أطواق الذهب في المواعظ والخطب"، وكتب الأصفهاني كتابه بعنوان "أطباق الذهب"، وما بين الأطواق والأطباق كتب شوقي "الأسواق" في إشارة منه للجمع بينهما، إذ إن السوق يجمع كلا من الأطباق والأطواق كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد درويش في معرض حديثه عن نثر شوقي.

وقد أشار شوقي نفسه في مقدمة كتابه إلى هذا المعنى، حين قال: "ولا توهمت حين أنشأتها أني صنعت أطواق الذهب، للزمخشري أو طبعت أطباق الذهب للأصفهاني، وإن سميت هذا الكتاب مما يشبه اسميهما، ووسمته بما يقرب في الحسن من وسميهما"، وبهذا يستمد شوقي قوة كتابه النثري من كتب قديمة بمثابة المراجع في هذا الباب، وأدخل نفسه في زمرة السابقين في هذا الفن.

كان "أسواق الذهب" آخر ما رآه شوقي في حياته من إصداراته، فقد طُبع الكتاب عام 1932، وهو نفس العام الذي رحل فيه شوقي، وقد جمع فيه كل ما كتب من فصول نثرية على طريقة المقامات طوال 28 عاما من حياته الأدبية، بداية من الحديث عن نفسه وعن بعض القيم كالحرية والخير والصبر وغيرها.

ولعل من أهم عوامل ثراء هذا الكتاب -من وجهة نظري- أن فصوله النثرية الخمسين قد تنوعت وتغيرت بقدر ما تغيرت الأزمان التي كُتبت فيها، فلك أن تتخيل أن كتابا يضم بين ضفتيه حصيلة ما كُتب في ثلاثة عقود كيف سيكون شكله بين "الأمس" و"اليوم" و"الغد"، وهي بالمناسبة عناوين فصول ثلاثة كتبها شوقي عن الماضي والحاضر والمستقبل وغيرها.

لقد ختم شوقي كتابه بفصل عنونه بـ"خواطر"، لا تزيد الخاطرة فيه عن سطر أو سطرين، ومنها ما يحفظه الناس اليوم ويتناقلونه. كانت أطول هذه الخواطر هي آخرها، وكأني بشوقي متكئاً ليكتبها مودعا بها نفسه قبل أن يودع عالم الناس مسديا إليهم نصيحته الأخيرة "لو طلب إلى الناس أن يحذفوا اللغو وفضول القول من كلامهم، لكاد السكوت في مجالسهم يحل محل الكلام. ولو طلب إليهم أن ينقوا مكاتبهم من تافه الكتب وعقيمها وألا يدخروا فيها إلا القيم العبقري من الأسفار، لما بقي لهم من كل ألف رف إلا رف".

وبهذا نختم، والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.