شعار قسم مدونات

تساؤلات مشروعة حول (أخلقة) الأدب

اختر وقتا كل أسبوع للجلوس والكتابة عمّا تملكه من نِعَم.
لماذا تهتم فئة من الكُتاب بحشو نصوصهم بكل ما يثير هرمون (الدوبامين) في الإنسان؟ (شترستوك)

بين الفينة والأخرى تطرح فكرة علاقة الأدب بالأخلاق، ويصاحبها تساؤلات مثل: هل يجوز أن نحاكم الأدب أخلاقيا؟ وهل على الأديب أن يلتزم الأخلاق فيما يقدمه من نصوص إبداعية سواء كان إبداعه شعرا أم نثرا. بل ابتدع البعض مفهوما جديدا أسماه (أخلقة الأدب) وتساءل عن صحة هذه (الأخلقة) فنيا وإبداعيا؟

ونسبة الأخلاق إلى الأدب حسب نظرية (أخلقة الأدب) يجعل الأخلاق جزءا غير أصيل فيه، (فأفعلة) الشيء في علم الصرف جعله يتصف بصفات ليست من صميم سماته وصفاته. فهل من الصائب أن نسمي علاقة الأدب بالأخلاق (أخلقة)؟ وقد أكسبتها همزة التعدية التي استخدمت في غير اختصاصها معنى الفرض والإلزام على غير حق.

هل الإيحاءات الجنسية وعوالمها وما يحيط بها من لفظ وفعل من العوالم المظلمة التي سيعم نور العلم والإيمان إذا كشفنا عنها، وهل المعرّى في المجتمع يحتاج إلى مزيد من التعرية؟!

هل تُعزل الأخلاق عن النص الأدبي؟!

واللافت للنظر أن الغالبية العظمى ممن ينافحون عن فكرة عزل النصوص الأدبية عن الأخلاق تدور فكرة الأخلاق التي يرفضون انتقادها أو محاكمتها حول أمرين لا ثالث لهما: الجنس و(الله). وحصر معنى الأخلاق في هذين العنوانين يظهر لنا وبشكل يكاد يكون واضحا من هم الرافضون لأي علاقة مطردة أو تفاهمية بين الأدب والأخلاق؟

لست هنا بصدد التنظير للأخلاق، ولكن لمناقشة فكرة طالما راودتني في قراءاتي لبعض الأعمال الأدبية العربية التي تتفتح فيها قريحة الكاتب لإبهارنا بمشاهد القبلات وثورة النزوات والتفنن في تصوير أجساد النساء وما يصاحبها مستخدما ألفاظا تخدش حياء النص قبل أن تخدش حياء القارئ، بحجة أن الكتابة الإبداعية مهمتها الدخول إلى عوالم الإنسان المظلمة.

وهل الإيحاءات الجنسية وعوالمها وما يحيط بها من لفظ وفعل من العوالم المظلمة التي سيعم نور العلم والإيمان إذا كشفنا عنها، وهل المعرّى في المجتمع يحتاج إلى مزيد من التعرية؟! وهل المجتمع العربي هو مجتمع في عمومه مجتمع لا أخلاقي حتى يدعي أولئك أنهم يعرضون حقيقة المجتمع؟ نعم هناك بعض المشاهد المبتذلة في المجتمع، ولكن هل على الأدب أن يعيد رسم الابتذال بحرفية ودقة عالية ليقول إن الابتذال موجود. أم من واجبه أن يبتدع طرقا إبداعية للإشارة إليه وإظهار بشاعته وتنفير الناس به.

هذه الأسئلة أعرضها لفتح آفاق من التفكير في بعض المسلمات المتداولة في الأوساط الثقافية العربية حتى اعتُبر مجرد الخروج عنها أو مخالفتها أعظم من الخروج عن القانون.

والسؤال الذي أود طرحه هنا: لماذا تهتم فئة من الكُتاب بحشو نصوصهم بكل ما يثير هرمون (الدوبامين) في الإنسان، وهو الهرمون المسؤول عن الشعور بالإثارة. ويتغافلون عن إخوته من العائلة الهرمونية العريقة.

لماذا مثلا لا يهتمون بهرمون (الأوكسيتوسين)، الذي يحفز الشعور بالغيرة مثلا، فربما لو تحفز هذا الهرمون بما تخطه يد المبدعين، لأسهم ذلك في القضاء على كثير من الممارسات الخاطئة في مجتمعاتنا، ولأصبحت بصيرتنا أكثر قدرة على إبصار الصواب وتلمس مواطن الجمال التي ترتقي بالبناء القيمي الذي ترتفع بارتفاعه مظاهر التحضر والنماء في مجالات شتى.

إن مسألة إطلاق الأحكام على الأشياء سلوك إنساني لا يمكن القول إنه غير موجود، أو إنه ليس من صميم التكوين الإنساني، لقد رفض سقراط الشعر لأنه رأى فيه إفسادا لأخلاق الإنسان عبر ما ظنه ترويجا للعواطف المبتذلة.

الفن للفن؟!

يرفض الفكر النسوي الحديث قصصا (نمّطت) المرأة وجعلت منها صورة أنثوية خالية من العقل والتفكر الذي يخولها لعب دور حقيقي في بيئتها مثل قصة ساندريلا، والأميرة النائمة، فكيف يمكننا القول إن الأدب لا يخضع للذائقة الأخلاقية، التي هي نوع من أنواع تذوق النص.

نعم هناك أشياء في الحياة لا تخضع لحكم الأخلاق مثل المسائل الرياضية والقوانين الفيزيائية، ولكن ماذا عن الأفكار التي تتماس تماما مع حياتنا ومجتمعنا، هل يكتب الكاتب ليظهر تفننه وإبداعه فقط؟!

ففي حين يقبل أدباء ونقاد جميع القراءات والتأويلات والمراجعات الناقدة النابعة من متلقي النص، فإنهم ينتفضون إذا تجرأ أحد وانتقد مشهدا في نص ما شعر أنه بالغ في تعرية الواقع الذي يتصدى له حتى نزع عنه ورقة التوت التي لو أبقاها لما حجبت الفكرة التي يريد إيصالها، ولكنه يختار نزعها. لماذا؟ لأن الفن يقتضي أن لا يخجل وأن لا يبقي شيئا يشير -لا سمح الله- إلى شبهة خجل.

من الأمثلة التي أحب استحضارها في هذا المقام ذلك المشهد في قصة نبي الله يوسف، عليه السلام، عندما صوّر النص القرآني لحظة ضعف المرأة أمام الشاب الجميل يوسف، لم يكن المشهد بحاجة إلى الإسفاف -حاشا لله- في وصف غريزة امرأة العزيز تجاه الفتى الشاب، لكنه صوره بواقعية تامة جعلته واضحا ومتخيلا دون اللجوء إلى تعرية ما حدث بينهما بالمعنى الذي يلجأ إليه مناهضو (أخلقة الأدب).

ناهيك على أن مذهب الفن للفن عندما نشأ في فرنسا كما فهمه منظروه وعلى رأسهم (تيوفيل غوتييه) ظهر كرد على المذهب الرومانتيكي الذي جعل فحوى الأدب تدور حول التعبير عن المشاعر الشخصية أولا وقبل كل شيء.

نعم هناك أشياء في الحياة لا تخضع لحكم الأخلاق مثل المسائل الرياضية والقوانين الفيزيائية، ولكن ماذا عن الأفكار التي تتماس تماما مع حياتنا ومجتمعنا، هل يكتب الكاتب ليظهر تفننه وإبداعه فقط؟! أليس في الأدب رسالة ما يحملها لعقل القارئ والأجيال التي سيبقى ما خطه إرثا فكريا وحضاريا لها؟! هل يبدع الكاتب لنفسه أم لمجتمعه؟! وهل يهدف الإبداع -وبشكل ما من أشكال وجوده- إلى الارتقاء بالجمال والبعد عن الابتذال؟!

الحديث في هذا الموضوع لا يمكن لمقال أو عدة مقالات أن يحيط به، ولكنني أقول إن الأدب -برأيي- هو جزء من (دينامو) الحياة في واقع المجتمعات، بل عليه تقع مسؤولية الإصلاح ونشر الوعي والارتقاء بقيم الخير والجمال، وإلا لكان اهتمامنا به وبنشره ضربا من السفه الذي لا جدوى منه.

نعم الأدب وسيلة مهمة لتعرية عيوب المجتمع، ومن أسمى مهامه الدخول إلى عوالم النفس وإخراج معاناتها ومعالجتها أدبيا وفنيا، بعيدا عن أسلوب الوعظ الذي لا أتبناه أبدا.

وواقعية الأدب تقتضي ملامسة الجوانب النفسية والغريزية ورسم الصور والمشاهد التي تخدم النص والشخصية والحبكة وغير ذلك، ولكن دون ابتذال مقصود يخدش ذوق القارئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.