شعار قسم مدونات

مسوغات إصلاح مؤسسة الولاية عند ابن تيمية وابن السبكي

جيش المماليك صورة تعبيرية المصدر : ميدجيرني
كان الوزراء يتغيرون بسرعة "حتى أن ذاكرة المؤرخين لم تعد تعي أسماءهم، وأوقات حكمهم (الجزيرة-ميدجيرني)

واجه المماليك إشكاليات شرعية بعد توليهم السلطة في مصر، ثم ساعدتهم الظروف للتغلب عليها، لا سيما تصديهم لحملات الصليبيين والتتار على بلاد الشام ومصر، وانتصارهم في عين جالوت عام 658هـ؛ إلا أن ذلك وإن أضفى على حكمهم الشرعية فإنه لم يضفِ عليه الاستقرار، فقد شهد عصرهم من الاضطرابات السياسية ما لم يشهده عصر قبلهم، ويكفي دِلالةً على ذلك أنه قد وقع مدة حكمهم 40 انقلابًا عسكريًا، فضلًا عن الانقلابات التي فشلت.

مات خلال تلك الانقلابات أكثر من 20 سلطانًا قتلًا أو اغتيالًا، حتى أصبح مسلمًا لدى المؤرخين القول: إن السيف كان طريق الوصول للسلطة في دولة المماليك (الحكم لمن غلب) بعيدًا عن الوراثة فضلًا عن الشورى، وكان من أبرز أسباب تلك الصراعات مجونُ السلاطين، وإغراقُهم في اللهو، وغير ذلك من الأسباب؛ الحال التي أعطت أمراءَ الجيش الطامعين في النفوذ الحجةَ للقيام بتلك الانقلابات، وحمل الأعرابَ في مصر والشام على الخروج عن طاعة أولئك السلاطين.

ولم يلجأ أولئك الأمراء إلى نظام الوراثة إلا لحسم الصراعات التي كانت تقع بينهم على تولي السلطة، فكانوا يعمدون وقتها إلى تولية طفل من أبناء السلطان المقتول ويكون مسلوب الإرادة، حتى إذا ما حسم الصراع لصالح أمير ما؛ عُزل ذلكم الطفل أو قتل، وتولى الحكم الأمير المتغلب.

أصبحت وظائف الدولة وما يتعلق بها لا تُنال إلا ببذل الرشوة والهدايا لأولئك السلاطين المستبدين، أو لنسائهم وجواريهم، وقد أحدث شعبان بن الناصر محمد (746-747هـ) ديوانًا خاصًا بذلك عُرف "بديوان البذل"

ولقد كانت لتلك الصراعات آثار سيئة على الدولة والحياة الاجتماعية معًا، تجلت في إخلال أولئك الأمراء المستبدين بواجباتهم وأعمالهم، وكان من أبرز صور تلك الآثار السيئة ما يأتي:

عدم استقرار الوظائف المهمة

فقد كان الوزراء يتغيرون بسرعة، "حتى أن ذاكرة المؤرخين لم تعد تعي أسماءهم، وأوقات حكمهم، فبعضهم قد يمكث في الوزارة سنوات، ولكن أغلبهم قد يمكث أشهرًا أو شهرًا، أو أيامًا أو حتى يومًا"، الشيء الذي جعل الوزارة مهنة، يتولّاها بالبرطيل من ليس كفأً لها، فلا يقوم بحقوقها، بل لقد أصبحت الوزارة تطلق على من يشتري حاجات السلطان ومماليكه من اللحم والحطب، وحوائج المطبخ، كما قال المقريزي (ت: 845هـ)، مما أحدث فوضى عارمة في شؤون الدولة الإدارية، إضافة إلى تفشي الفساد في الوظائف الأخرى.

انتشار الرشوة

أصبحت وظائف الدولة وما يتعلق بها لا تُنال إلا ببذل الرشوة والهدايا لأولئك السلاطين المستبدين، أو لنسائهم وجواريهم، وقد أحدث شعبان بن الناصر محمد (746-747هـ) ديوانًا خاصًا بذلك عُرف "بديوان البذل"، "وشاع ذلك في الأقطار، وصار من له حاجة يأتي إلى صاحب الديوان المذكور، ويبذل فيما يرومه من الوظائف"؛ فـ"تجاهر الناس بالبراطيل، فلا يكاد يلي أحد وظيفة ولا عملا إلا بالمال، فترقى للأعمال الجليلة والرتب السنية الأراذلُ، وفسد بذلك كثير من الأحوال"، وقد عرَّف المقريزي البراطيل بأنها "الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد ومحتسبيها، وقضاتها وعمالها"، وانعكست تلك الحال سلبًا على الولايات كلها، فصار من يتولى وظيفة بالرشوة لا يقوم بحقوقها لأنه ليس أهلًا لها، واستمرَّ شيوع الرشوة حتى نهاية دولة المماليك، وكان سببًا من أسباب سقوطها أيضًا.

كانت الضرائب تلغى ثم تعود، حسب من يتولى السلطة، واستمرَّ بقاؤها حتى نهاية الدولة المملوكية

تسلط السلاطين المستبدين على العوام

وذلك بفرض المزيد من المكوس والضرائب الباهظة، وقد كان من سنة المماليك منذ بداية حكمهم فرض الضرائب والمكوس على المسلمين وغيرهم، "وشملت كل شيء إلا الهواء، الذي أُخلي سبيله وحده، وبقي حرًا"، ولكن تلك الضرائب كانت تخضع لطبيعة السلطان صلاحًا وفسادًا؛ فإذا اعتلى سدة الحكم سلطان صالح، أو كان من سياسته في الحكم التقرب إلى الناس؛ فإنه كان يعمل على رفع الكثير من تلك الضرائب والمكوس عن الناس، وإذا اعتلاها سلطان مستبد لا يبالي بحال الناس، كشعبان بن الناصر محمد (746-747هـ)؛ فإنه كان يزيد في تلك الضرائب من دون مراعاة لأحكام الشريعة، ولا لأحوال الناس، ولقد كان من أسوأ تلك الضرائب التي تشير إلى عظم الفساد الذي نخر نظام الحكم المملوكي والمجتمع على السواء؛ تلك التي كانت تؤخذ من الغواني وأرباب الفواحش والزناة لحمايتهم، ولمَّا كانت هذه الضريبة غير شرعية فإنها أدخلت تحت نظام الضمان، وسميت "ضمان المغاني" (أو مقرر الملاهي والأفراح)، وقد كانت هذه من الضرائب التي تلغى ثم تعود، حسب من يتولى السلطة، واستمرَّ بقاؤها حتى نهاية الدولة المملوكية.

معاقرة الخمر ومخادنة البغايا

وحمل ذلك أولئك السلاطين إلى أن أنفقوا أموال الدولة على مثل تلك الفواحش، وانشغلوا بها عن شؤون الدولة والحكم، ومن أولئك السلاطين: أبناءُ الناصر محمد بن قلاوون الثمانية وأحفاده، كالمنصور (741-742) الذي "أفحش في التّجاهر باللهو، حتى تكلّم به كلّ أحد من الأمراء والأجناد والعامّة، فصار في الليل يطلب الغلمان لإحضار المغاني"، وإسماعيل (743-746) الذي "أعرض عن تدبير الملك بإقباله على النساء والمطربين… فصارت الإقطاعات والرزق لا تقضى إلا بالخدام والنساء"، وشعبان (746-747) الذي يعدُّ عهده من أسوأ عصور دولة المماليك الأولى، فقد فشت في زمنه الخلاعة والمجون، حتى وصفه ابن تغري (ت:874هـ) بأنه "كان من أشرّ الملوك ظلمًا وعسفًا وفسقًا، وفي أيامه -مع قصر مدّته- خربت بلاد كثيرة؛ لشغفه باللهو، وعكوفه على معاقرة الخمور، وسماع الأغاني وبيع الإقطاعات بالبذل، وكذلك الولايات"، ولم يعد الأمراء يصغون إلى أوامره، بل لقد خرج عليه يلبغا نائبه على دمشق، وأرسل إليه قائلًا "إنّك لا تصلح للملك، وإنما أخذته بالغلبة من غير رضا الأمراء، ونحن ما بقينا نصغي لك، وأنت ما تصغي لنا، والمصلحة أن تعزل نفسك من الملك ليتولّى غيرك"، إلى غيرهم من السلاطين الذين لا تختلف حالهم عن حال من ذكر.

كل هذا وغيره من الفساد الذي عمَّ مؤسسة الولاية، وانعكس سلبًا على حال الدولة؛ قد سوَّغ أن يقدم ابن تيمية وابن السبكي وغيرهم من العلماء رؤىً إصلاحية لذلك الفساد، كلٌ حسب موقعه من الدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.