شعار قسم مدونات

قراءة في رواية "صمت البحر" للفرنسي جان مارسيل برولير

تصميم-كتاب-صمت-البحر
غلاف رواية "صمت البحر" (الجزيرة)

يقول الأديب الفرنسي روبير سكاربيت إن هناك طرائق عدة في ارتياد الحدث، منها العنوان، وهو الشفرة التي يُبنى عليها النص. وهنا نتساءل لم أطلق برولير على روايته اسم "صمت البحر"؟ الحقيقة أنه اسم رمزي يعبّر عن أقسى حالات الاستسلام من جهة، والحاجة الملحة إلى إبداء ردة فعل من جهة أخرى، إزاء الكره والحب كما استبطنته الرواية.

صدرت الرواية عام 1942 إبان الغزو الألماني لفرنسا، ونشرت باسم مستعار "فيركور". وحسب الرواية، فأن تخضع الأرض للاحتلال مسألة يمكن معالجتها بأكثر من وسيلة، أما أن تُحتل الأرواح، فمعالجتها تقارب المستحيل، وهذا ما قاومه بطلا "صمت البحر".

لم تأت الرواية -إن شئنا الدقة- كتعبير جمعي نقله كاتب مستريح ذو ملكة يعول عليها، بقدر ما هي ردة فعل الكاتب نفسه، إذ باشر كتابة صفحتين من الرواية كل يوم أثناء امتثاله للشفاء إثر تعرضه للإصابة في بداية الحرب "للإبقاء على عقله فاعلًا"، بحسب ما صرح في ما بعد.

أربع طبعات عربية لهذا النص القصصي/الروائي، فلماذا هذه الطبعة الخامسة؟

يتساءل الناشر إلياس فركوح، مقدم "صمت البحر"، ويجيب: ببساطة ليس لأنها واحدة من أهم وأشهر كتابات المقاومة في تاريخ الأدب الحديث وحسب، بل لأنها أرتنا كيف للمقاومة السلبية، غير المسلحة، أن تكون ذات فعالية هائلة متمثلة في الصمت، صمت بمقدوره أن يكون "مخترِقًا" و"قاتلًا" في وقتٍ ما، ومكانٍ ما، وظرف ما، وحيال شخصٍ ما… طبعة أخرى لأن كتابة كهذه تمثل ضرورة روحية ما دامت الاحتلالات لم تنتهِ.

تبهرنا رواية "صمت البحر" بسرديتها غير المتأججة بمأساة الاحتلال الألماني وتتبع بشاعتها، إذ تضع الصمت رديفًا للمقاومة

انتفاضة صامتة

استطاع برولير أن يختزل مأساة الاحتلال الألماني لفرنسا في مساحة ضيقة وفي شخصيات محدودة يرويها رجل عجوز يعيش مع ابنة أخيه في منزل رتيب، هو يطلب قهوة، هي تعدها، يدخن غليونه، هي تحيك القماش.. وبينما هما على تلك الحال، يقتحم حياتهما ضابط ألماني غير مرحب به، كعادة الألمانيين في حروبهم، إذ يسكن الضباط -بالإكراه- في مساكن المدنيين باعتبارهم ضيوفا، وهذا ما حدث في البيت الفرنسي، بيت العم وابنة أخيه. ترك بلولير شخصيات روايته الثلاث من دون اسم باستثناء الضابط الألماني "فرن فون إبرناك"، وفي ذلك رمزية إلى المقاومة الفرنسية المسلوبة الإرادة.

تبهرنا رواية "صمت البحر" بسرديتها غير المتأججة بمأساة الاحتلال الألماني وتتبع بشاعتها، إذ تضع الصمت رديفًا للمقاومة، بالإضافة إلى حيادية المؤلف في تقديم شخصية المحتل، بمنأى عما تتطلبه اللحظة في التعامل معه ولو مجازًا. وأكثر من ذلك قدمه كداع إلى السلام، فهو شاب مرهف الحس، هذبته الموسيقى، يتحدث عن باخ وبيتهوفن.. لا يدخل البيت إلا بعد أن يستأذنهما، وحين يغادرهما يلاطفهما بعبارته المألوفة "أتمنى لكما ليلة سعيدة"، رغم صمت العم وابنة أخيه، وقبل أن يغادر يرمق الشابة بنظرات عطوفة آملًا أن تنظر إليه، إلا أنها تستمر في صمتها، كأنها تمثال متحرك.

"تطاول الصمت، وتحوّل شيئًا فشيئًا إلى صمت كثيف كضباب الصباح، صمت كثيف وراسخ"، هنا يلجأ الضابط إلى استمالة المسن وابنة أخيه لكسر صمتهما، فتارة يستعطفهما بحديثه عن مقته الشديد للحرب، وتارة يستعرض حبه لفرنسا وأمله الحقيقي في انتهاء الحرب "ستكون هذه هي الحرب الأخيرة! لن نشتبك بعد الآن"، كما كان يأمل أن تهذب فرنسا الألمان، وتعلمهم كيف يكونون رجالًا طاهرين وعظماء حقًا. يتمكن إبرناك من استعطاف العم "ربما كان من غير الإنساني أن ترفضي التحدّث إليه ولو بكلمة واحدة".

وفي هذا إيحاء ينمّ عن سماحة الفرنسي غير المتحامل حتى مع العدو. أما ابنة أخيه فكان ردها حادًا وقاسيًا بتعبير عمها "رفعت ابنة أخي وجهها، وارتفع حاجباها عاليًّا جدًّا، فوق عينيْن لامعتين حانقتيْن، وشعرتْ نفسي أحمّر قليلاً من الخجل"، أراد المؤلف -من خلال ردة فعل الشابة القاسية تجاه تعاطف عمها- أن يبث روح المقاومة في الجيل الجديد غير المهادن، وأن يعلي من الحماس لديهم، فهم جذوة المقاومة الفرنسية.

في لحظة مفصلية مهمة داخل الرواية، يقرر الضابط الألماني إبرناك السفر إلى باريس بضعة أيام.

"عليّ أن أخبر مضيفيّ أنني سأتغيب لمدة أسبوعين! إن البهجة تغمرني بذهابي إلى فرنسا. لقد أتى الآن دوري في الإجازة وسأقضيها في باريس.. أتمنى لكما ليلة سعيدة". سيظل البيت الفرنسي -العم وابنة أخيه- على حاله، إلا أن إحساسًا غريبًا سينتاب العم وابنة أخيه، لن يفصحا عنه.

"إن هذا الغياب قد حرمني هدوء نفسي، كنت أفكر فيه، ولست أدري إلى أي حد لم يكن يساورني الأسف والقلق. لم نتحدث عنه، لا ابنة أخي ولا أنا، ومن خلال بعض الخطوط الخفيفة التي كانت تُطبع على وجهها تعبيرًا عنيدًا ومنتبهًا في آن واحد، أنها هي أيضًا لم تكن خالية الذهن من أفكار مشابهة لتك التي تشغلني".

بعد أيام كان على العم أن يذهب إلى القيادة العامة لأمر ما، ليفاجأ بالضابط إبرناك هناك، وقد بدا "شاحبًا ومخطوفًا" كأن مسًا أصابه.

تنتهي الرواية حين ترد الفتاة -الصامتة طوال الرواية- بكلمة "وداعًا" على عبارته الأخيرة "أتمنى لكما ليلة سعيدة"

"ليس هناك أمل"

عاد الضابط مضطربًا، وبصوت يائس قال: "عليّ أن أدلي لكما بكلام خطير،" وبدأ يطالبهما بنسيان كل ما قاله خلال تلك الشهور، فكل آماله المبشرة بالسلام والحب والألفة جاءت من روح شاعر، "إن السياسة ليست حلم شاعر"، ففي إجازته تعرّف إلى النازية على حقيقتها لا كما روّجتها الأيديولوجية النازية بداية الغزو.

وبالصوت اليائس ذاته، ينقل إليهما سخرية أصدقائه منه "إن الفرصة أمامنا للقضاء على فرنسا وسنقضي عليها، لا على قوتها فقط، ولكن على روحها أيضًا، وعلى روحها بشكل خاص، ففي روحها يكمن الخطر، كل الخطر، وتلك هي مهمتنا في هذه اللحظة، فلا تخدع نفسك عنها…سنغرر بها عن طريق الابتسام والملاطفات، وسنجعل منها كلبة زاحفة".

تنتهي الرواية حين ترد الفتاة -الصامتة طوال الرواية- بكلمة "وداعًا" على عبارته الأخيرة "أتمنى لكما ليلة سعيدة"، وهنا يترجم العم نظرات الضابط وابنة أخيه الهائمة بالشاب الألماني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.