شعار قسم مدونات

فائض في المادة وانخفاض في الروح

هذه التقنية تسطو وتجتاح كل شيء كعاصفة هوجاء أو كفيروس كورونا (الفرنسية)

حقا، لقد وضعت تقنية شات "جي بي تي" العالم في حالة من الذهول والحيرة الحقيقيين، وعبّر كثير من المسؤولين والمهمّين في العالم عن مدى تخوفهم من سطوتها، ووصفوها بالمرعبة والمخيفة.

وجد الملايين أنفسهم عاجزين في منازلهم أو منهكين بالتفكير في طرق عمل بديلة عن التي فقدوها بسبب هذه التقنية، أو ربما يعيشون صدمة قد تؤثر فيهم نفسيا واجتماعيا واقتصاديا، خصوصا أولئك الذين كانت أعمالهم التي فقدوها مصدر دخلهم الوحيد.

الجميع في حيرة وذهول، وهم يرون التقنية تجرّد الإنسان دون أدنى اعتبار لماهيته؛ تسطو وتجتاح كل شيء كعاصفة هوجاء أو كفيروس كورونا، والعالم ينظر إليها محتارًا فاقد الحيلة.

تستهدف التقنية أن تكون سلطة نزقة تهيمن على العالم، في صورة طبقة من الناس ممن يستطيعون فهم عالمها البرمجي واستيعابه.

بداية حقبة جديدة من الهيمنة

حقبة ستقوم على التناقضات، ورجحات كبيرة للميزان ومستمرة، فسيُقابل المنفعة الجليلة استغلال قذر، وسيقابل الطفرة في المال والثورة فقر مدقع وبطالة؛ فائض في المادة وانخفاض في الروح، مجموعة نبلاء وشعوب مسحوقة. فالتقنية تستهدف أن تكون سلطة نزقة تهيمن على العالم، في صورة طبقة من الناس ممن يستطيعون فهم عالمها البرمجي واستيعابه، وعموم الناس أشياء مختلفة، في محاولة خطرة منها تريد إذابة كل ألوان الدنيا إلى لون واحد: المادة والآلة.

التاريخ يعيد نفسه

يحدثنا الكاتب يانيس فاروفاكيس، من كتابه "الاقتصاد كما أشرحه لابنتي" عن حالة لهث الرأسماليين خلف المال والثروة وعدم اكتراثهم بعمالهم. يتحدث لنا من التاريخ، عندما كانت الأرض هي المصدر الوحيد وكان موظفوها الفلاحون هم الأقل شأنا في المجتمع. وحدث (كما يحدث الآن) أن ظهرت مصادر جديدة للتجارة، وفقدت الأرض قيمتها، حينئذ تم تسريح 70% من الفلاحين واستبدالهم بتربية الخراف. تشرّد الفلاحون في الأصقاع حين فقدوا قيمتهم السوقية، وكانت تلك -كما يصفها يانيس- عملية مدمرة ووحشية وقاسية وشديدة الفعالية. وكنت ناقشتُ هذه الفكرة في مقال "الرأسمالية والتسريح التاريخي للموظفين" المنشور على الموقع بوست؛ فكأن ما حدث بالأمس يحدث اليوم تمامًا.

ثمة قوى وبشر آخرون يؤمنون بأن العالم والإنسان يتكونان من قيمتين أساسيتين هما: "الروح والمادة"، سيظهرون بمكان ما، وبشكل ما، أي شكل يمكن تصوره، للانتصار لهذا الإنسان الذي سيصبح كما يبدو رهينة في قبضة سلطان الذكاء الاصطناعي المستبدة.

لكل شمس زوال ولكل ليل انقشاع

ولكن مهما بدا "جي بي تي" مخيفًا ومحاولًا قذف الفزع والخوف فينا بكل ضراوة، وهو فعلا يسير في هذا الاتجاه؛ فقدْ فقدَ العالم 83 مليون وظيفة حالية، حسب منصة الشرق للأخبار، وتم استبدالها بتقنيات الروبوتات والذكاء الاصطناعي. لن يكون كل شيء، ولن يحل بدل كل شيء، ولن يلغي الإنسان الذي يقوم الآن بتسريحه غير مُكترث بما سيؤول إليه بعد التسريح، ولا مدرك بأن التسريح يولد الفقر والفقر يصنع الجريمة، أو متجاهل بكل حماقة هذه الاعتبارات الشديدة الأهمية.

مهما شاهدناه يستحوذ على كثير من مهماتنا في الحياة، ويمضي ليغدو إلهًا جديدًا بدلًا من الأرباب التي صنعها البشر من قبل وعبدوها، وعدّوها النهاية والمنتهى، لن يصير ذلك الرب الذي يخيف كل البشر. وإن تَمّلكهم حقا، فلن يطول ذلك التملك؛ لأنه مادي بحت، وصُنّاعه يبحثون من خلفه عن الثروة والمادة والسلطة، فذلك هدفهم الأساسي وغايتهم السامية، وما خدمة الإنسان إلا شيء ثانوي.

سنة التدافع لا تموت

لأنه سلطان طاغ بلا روح، ولا تعنيه الأخلاق كقيمة أساسية، وينظر إلى العالم وكل ما فيه على أنه مادة مجردة، ثمة قوى وبشر آخرون يؤمنون بأن العالم والإنسان يتكونان من قيمتين أساسيتين هما: "الروح والمادة"، سيظهرون بمكان ما، وبشكل ما، أي شكل يمكن تصوره، للانتصار لهذا الإنسان الذي سيصبح كما يبدو رهينة في قبضة سلطان الذكاء الاصطناعي المستبدة، وهناك سيُخلق التوازن (تحدثتُ بشكل مستفيض عن كيف تحدث التوازنات في الأرض، بإرادة إنسانية أو سماوية، في مدونة بعنوان "فلسفة التوازن" منشورة هنا في الجزيرة نت) وهذه هي السُّنة الكونية التي تجري على كل تاريخ وفي كل زمن، بأشكاله وطرقه الخاصة؛ على اعتبار أن الذكاء الاصطناعي ومن خلفه؛ قوة جديدة ناشئة تفكر بالسيطرة والهيمنة على العالم بأسره.

شواهد التاريخ الكثيرة وقصصه المتضخمة في الكتب تقول لنا باستمرار إن الإنسان كلما سار بأفكاره وأنظمته متجاوزا الفطرة الإنسانية السليمة وراح يجعل من وسائله التي يصنعها إلهًا يُعبد أظهر الله قوة تعيده إلى جادة صوابه.

العالقون في الماضي

وهذا ما يؤكد للغارقين في التاريخ، المُصرّين على ارتداء البُردة وامتطاء الحصان، في زمن إنترنت الأشياء والطيران المسيّر، أن لكل زمن فكره وأدواته وطرقه، وأن طرق السيطرة وأساليبها باتت اليوم تجري بشكل غير ملموس أو مدرك، تجري في شكل تطبيق إلكتروني. وها هو العالم يجري أمامنا ويخبر عيوننا كيف يجري، فلماذا يصر البعض على تغطية الشمس بغربال؟ يتوهمون أن تمسكهم بحرفية الماضي هو سبيل نجاتهم. حينئذ، وكما نشهد كثيرا، سيكونون أول المتطبعين على كثير من الأشياء التي يفرضها الواقع، وسيحتاجون إلى وقفة جادة أمام حقيقة صلاحية الدين لكل زمان ومكان، وقد آن الأوان ليهبطوا من الكتب القديمة إلى الواقع ليفقهوه.

شواهد التاريخ كثيرة

إلام أستند في هذا القول: "الذكاء الاصطناعي لن يبقى طويلا سلطانا مستبدا يهزم الإنسان ويسيطر عليه"؟

أجيب: إلى شواهد التاريخ الكثيرة وقصصه المتضخمة في الكتب، التي تقول لنا باستمرار إن الإنسان كلما سار بأفكاره وأنظمته متجاوزا الفطرة الإنسانية السليمة وراح يجعل من وسائله التي يصنعها إلهًا يُعبد أظهر الله قوةً (تخيل تلك القوة على أي شكل) تعيده إلى جادة صوابه، وتعيد الاختلال الذي خلقه إلى التوازن.

والله غالب، إن غَلب الإنسان أخاه الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.