شعار قسم مدونات

ابن ياسين.. العالم الذي أجاد التفاوض مع الواقع

الداعية والمربي والمجاهد عبد الله بن ياسين تميزت حياته بالنبوغ في العلم والشريعة (مواقع التواصل)

اقترن بروز الدولة المرابطية في القرن الخامس الهجري بالمغرب، في أعقاب 3 قرون من الانقسام السياسي وتوزع البلاد بين إمارات متفرقة، بشخصية فذة ستدخل بالمغرب وبدولة المرابطين السجل الذهبي لتاريخ أقوى دول الغرب الإسلامي، إنه العالم العامل المجاهد عبد الله بن ياسين الجزولي.

ليس ثم تاريخ محدد على وجه الدقة لميلاد الشيخ عبد الله بن ياسين بن مكوك بن علي، إلا أن الراجح من الأقوال، ازدياده بـ"تمنارت" ببلاد سوس مطلع القرن الخامس الهجري حسب رواية الإخباريين، منتسبا إلى جزولة من جهة أمه. تربى الصبي النجيب في أكناف أسرة مسلمة، وأخذ العلم من حلقات شيخ المنطقة وجاج من زلو اللمطي، وفي قرطبة كذلك مدة 7 سنين، تشرب فيها أصول المعارف والعلوم، وتشبع بروح تجديدية وعقلية إصلاحية متنورة وروح وحدوية.

أسس بالمجاهدين والمسلمين الجدد في الصحراء حركة "المرابطين"، التي وطد بها عملا دعويا منظما هدف لنشر الإسلام وتصحيح الانحرافات العقدية والسلوكية

ترتيبات الأشياخ ترتقي بأدوار الشيخ الصغير

سيكون للفقيه المغربي المقيم في القيروان أبي عمران الفاسي (ت 1038م) دور -وإن بطريقة غير مباشرة- في تعريف المغاربة وقبائل الصحراء بالعالم النجيب عبد الله بن ياسين. ذلك أنه بعد أن عرج وفد الحجيج المغربي على إفريقية (تونس) بعد انتهاء مناسك الحج قاصدا لقيا العلامة أبي عمران للتبرك بعلمه، ولتقديم طلب إليه، موضوعه انتداب شيخ عالم لتعليم أبناء الصحراء وساداتها دين الإسلام وسنة محمد عليه الصلاة والسلام. فاقترح عليهم الفقيه أبو عمران أحد أنجب تلامذته المقيمين في المغرب، الشيخ وجاج بن زلو اللمطي أبرز فقهاء الجنوب الغربي المغربي، وكتب إليه برسالة مع رئيس وفد الحجاج يطلب منه مرافقتهم إلى الصحراء لتعليمهم أحكام الإسلام، بعد انصرام 4 قرون ونصف القرن من إسلام المغاربة.

تسلم الشيخ وجاج الرسالة، وأوكل بالمهمة الجليلة لنابغة تلامذته وشيخ سوس من بعده عبد الله بن ياسين، الذي "كان من حذاق الطلبة ومن أهل الفضل والدين والورع والسياسة، مشاركا في العلوم"، حسب عبارة أحمد الناصري في "الاستقصا"، فقبل بالأمر، وانتقل من بلاد سوس إلى تخوم الصحراء، ليبدأ رحلة دعوية ورباطا تربويا أثمر دولة من العيار الثقيل، وأعطت لاسمه إشعاعا وطنيا وأفريقيا وعربيا.

ابن ياسين بين تكثير الأتباع وصراع الأشياع

بعد مقام كريم وتقلبات وصعوبات مع الأتباع الجداليين واللمتونيين -قبائل مكونة لدولة المرابطين-، ومساع حثيثة لدعوة زناتة المغراويين، آتت جهود عبد الله بن ياسين التربوية والدعوية والتعليمية أكلها، فجمع حوله قبيلة جدالة الصنهاجية، ولمتونة، وعلمهما أصول الدين والاحتكام إلى المذهب المالكي، والدفع بأثر حركته الدعوية الإصلاحية على الواقع، وتكوين عصبية قبلية قامت على أساس الوحدة بين جدالة ومسوفة ولمطة، بقيادة قبيلة لمتونة "التي ستلعب في النظام المرابطي دور قريش في الدولة الإسلامية الأولى بعد فتح مكة"، في حين سيلعب عبد الله بن ياسين دور "المرشد المصلح" بتعبير المؤرخ عبد الله العروي في "مجمل تاريخ المغرب".

استقامت أحوال القبيلتين الكبيرتين وصارتا قوتين تربويتين وجهاديتين خاض بهما ابن ياسين حملات عسكرية على القبائل الصحراوية المخالفة، إلى أن تمت له السيطرة على كافة الربوع الصحراوية، فأسس بالمجاهدين والمسلمين الجدد في الصحراء حركة "المرابطين"، التي وطد بها عملا دعويا منظما هدف لنشر الإسلام وتصحيح الانحرافات العقدية والسلوكية، ثم انطلق في دعوته وحملته شمالا، معلما ومربيا ومصلحا وموحدا سياسيا.

يحسب في مسيرة ابن ياسين، وفي سجل ابن تاشفين وقادة الدولة المرابطين من بعده، ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب، وإرساء الاختيارات الدينية والمذهبية التي لا يزال المغرب مستمسكا بها إلى زمننا هذا

من رباطات العباد إلى توحيد البلاد

لقد كان الانطلاق من حلقة منقطعة للعبادة والتعلم والتدين، إلى حركة جهاد صغيرة ضد المخالفين من قبائل صنهاجة، فالتوجه من سوس إلى بلاد شنقيط، ومنها إلى صحراء المغرب، فالعودة إلى سوس، ثم الرجوع إلى الصحراء، والتوجه إلى سجلماسة والاستيلاء عليها سنة 1053م، وصولا إلى نفيس، بما يناهز 20 عاما من الدعوة والإصلاح والجهاد ومساعي التوحيد— الطور الأول الممتد من محاولة التوحيد والمغربة الناجحة.

ثاني محاولات المرابطين بقيادة ابن ياسين لنشر الإسلام وتوحيد القبائل كانت في سجلماسة ودرعة اللتين ضمهما لدعوته وحركته سنة 445هـ-1053م، ثم انتقل إلى سوس، فقاوم الشيعة البجليين الذين "كانت ديارهم برودانة، وبقيت هذه الرافضية إلى قريب من سنة 450 هجرية، حتى غزا ديارهم يوسف بن تاشفين فقاتلهم، ولم يقبل منهم إلا الإسلام من جديد، وبذلك طهر البلاد من الرافضية، ولو يبق لهم وجود يذكر"، وضم القبائل والتراب لنفوذ حركة المرابطين، ومنها اتجه صوب الأطلس الكبير وبلاد تامسنا، وأخضع أغمات عاصمة حكم إمارة مغراوة منتصف القرن الخامس الهجري 1058م لنفوذ المرابطين.

بعد مسعى التوحيد السياسي ضد التفرقة والتجزئة السياسية والجغرافية والربط الإستراتيجي بين العمق الصحراوي وشمال المغرب الذي تم بتوفيق الله على يد هذا الرجل المصلح، سيضاف له مسعى آخر تكلل بالنجاح، ويحسب في مسيرة ابن ياسين وفي سجل ابن تاشفين وقادة دولة المرابطين من بعده، ألا وهو ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب، وإرساء الاختيارات الدينية والمذهبية التي لا يزال المغرب مستمسكا بها إلى زمننا هذا، و"إحياء الوحدة الصنهاجية على أسس جديدة تجمع بين الروحي والمادي".

وقد أسهمت عمليات التوحيد المذهبي (الديني والسياسي) "في وحدة الأمة المغربية من خلال توحيد عقيدتها وشعائرها الدينية ومعاملاتها الدينية. وهو ما يفسر بالتالي القضاء التدريجي على المذاهب المعارضة وتكريس المذهب المالكي، إضافة إلى انقراض الإمارات المسيحية والدين المسيحي بالمغرب، واقتصرت فئة غير المسلمين بالخصوص على اليهود الذين عوملوا معاملة أهل الذمة، وعلى مسيحيي الأندلس حينما توسعت الدولة المرابطية في شبه الجزيرة الإيبيرية".

تفرد ابن ياسين أيضا بالاستثمار الذكي للفراغ السياسي الذي أحدثه انسحاب قوتين إقليميتين مؤثرتين في المجال السياسي المغربي، وهما العبيديون وأمويو الأندلس

فرادة القائد وشموخ الشيخ

تميزت حياة الداعية والمربي والمجاهد عبد الله بن ياسين بالنبوغ في العلم والشريعة، والذكاء في تبليغ الرسالة وفي منهج التربية، وحسن التفاوض مع ضرورات وتقلبات الواقع، ولا سيما اعتماده التدرج في مراحل التربية والتزكية والمرابطة، وبوعي سياسي مبني على أيديولوجية "الوحدة" إن جاز التعبير. فالرجل لم يرض عن واقع وحصيلة قرون من الشتات القبلي وعدم الاستقرار السياسي وضعف تطبيق التعاليم الدينية وانتشار الإمارات الحاكمة في كل منطقة من مناطق البلاد، فانتقل من الدعوة إلى الدولة، ومن رباط التربية إلى ساحة الأداء السياسي، بإعطاء دفعة معنوية ومادية ومجالية لحركة المرابطين، قادها بنفسه، عن طريق التفاوض مع بعض القبائل، واكتساح أخرى بالحملات العسكرية، والقضاء على إمارة هنا وإدماج أخرى من هناك.

ومرجع هذا كله إلى توفيق الله وإرادته أولا، ثم إلى مزايا ومؤهلات القيادة الدينية والسياسية في شخصية الإمام ابن ياسين، المتمثلة أساسا في الذكاء والشجاعة حيث "كان شجاعا عظيم الاحتمال، مارس أفضل الشجاعة ألا وهي الصراحة في الحق (..) وفي ميادين القتال"، وكذا "المهابة والأمانة والحياء والحلم والجاذبية الفطرية والإرادة القوية والصدق والقدرة على الفهم والاستيعاب والتوصل إلى القرار الحاسم في الوقت المناسب، والشعور بمعاني المسؤولية والتعامل الجيد مع طباع الناس".

تفرد ابن ياسين أيضا بالاستثمار الذكي للفراغ السياسي "الذي أحدثه انسحاب قوتين إقليميتين مؤثرتين في المجال السياسي المغربي وهما العبيديون وأمويو الأندلس،" وأسهمت في ذلك تحولات المحيط الإقليمي والعالم الإسلامي وضعف السلطة البيزنطية في الشرق، وترهل الدولة العباسية، وتخبط أوربا المسيحية في ظلامها، مما شكل قوة دفع لانطلاق الدعوة والدولة المرابطية لقيادة تجربة سياسية وحدوية قوية وعظيمة في غرب البحر الأبيض المتوسط، عنوانها "ملحمة المرابطين"، وهي التجربة "الأولى من دول المغرب ذات الأهمية العالمية".

تحتفظ الذاكرة التاريخية والتاريخ الوطني بمكانة رمزية ومعنوية عالية للإمام القائد المجاهد عبد الله بن ياسين، وتحفظ له إسهامه الكبير في انتشال المغرب من التمزقات الدينية والتصدعات السياسية

خاتمة.. شهادة وارتقاء وخلود في التاريخ وبقاء

بعد حياة تربية وجهاد، وفي أثناء قيادته للمرابطين في حملتهم العسكرية على بلاد بورغواطة، ارتقى شهيدا إلى ربه في المعركة التي دارت رحاها سنة 451هـ-1059م، فدفن بمنطقة بين مدينة الرباط الحالية والرماني، فخلفه الشيخ سليمان بن عدو، غير أنه قُتل، كما استشهد الأمير يحيى بن عمر اللمتوني ليفتح برحيله عهدا آخر لحركة المرابطين، أجمعوا فيه على تولية الأمير أبي بكر بن عمر الذي توفق في حسن اختيار ابن عمه يوسف بن تاشفين وإنابته عنه في تدبير شؤون البلاد ومصالح العباد، وكان بذلك ظهوره الأول على مسرح الأحداث بالمغرب الأقصى، وبالتعاون مع إخوانه وعصبيته تمكنوا من تأسيس أول دولة قوية مترامية الأطراف مهابة المكانة في محيطها الإقليمي والأفريقي والإيبيري.

وبذا تحتفظ الذاكرة التاريخية والتاريخ الوطني بمكانة رمزية ومعنوية عالية للإمام القائد المجاهد عبد الله بن ياسين، وتحفظ له إسهامه الكبير في انتشال المغرب من التمزقات الدينية والتصدعات السياسية، وتخلده عندها في مصاف العظماء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.