شعار قسم مدونات

فرانسوا هولاند.. دروس السلطة

محطات في حياة الرئيس الإشتراكي الفرنسي السابق هولاند (الجزيرة)

لولا أن كلمة "مذكرات" كانت ظاهرة على الغلاف لظننت من العنوان أنه كتاب في العلوم السياسية، وعندما عرفت أن المؤلف كان رئيسا لفرنسا عجبت إذ لم أتذكر اسمه، بينما عددت ثمانية من رؤساء فرنسا منذ ديغول وانتهاء بإيمانويل ماكرون، ولعل السبب أنه لم يقض إلا فترة واحدة في السلطة، ولم يرشح نفسه ثانية. هولاند هو الرئيس الثاني الاشتراكي لفرنسا بعد فرانسوا ميتران، وقد فاز على ساركوزي الذي كان قد رشح نفسه لرئاسة ثانية، والرجل يكتب بطريقة أنيقة، وهو لا يروي أحداثا متسلسلة ولكنه يتكلم عن ما حدث معه خلال رئاسته، وعن بعض محطات حياته التي تهم القارئ الفرنسي.

أقر بخطأ حكومته حين رفضت هجرة عائلة من كوسوفا لأن شروط الهجرة لا تنطبق عليها

إبراء ذمة

ويبدو أن كتابه هذا نوع من إبراء الذمة، يقصد به أن يطلع شعبه على إنجازاته وسياساته وظروف عمله، تلك التي لم تنل حظها من التقديم والحفاوة، إذ كان عليه التعامل مع "الإرهاب" على مستوى الداخل الفرنسي، كما تعامل مع "الإرهاب" عن طريق التحالف الدولي ضد داعش، وقد شن هجمات عسكرية ناجحة لإنقاذ حكومة مالي من جماعة بوكو حرام، ولم ينجح هجوم لجيشه على "إرهابيين" في الصومال، وسياسته ضد "الإرهاب" جعلته معنيا بمنع أي اضطهاد عنصري ضد المسلمين ينشأ من تحميلهم وزر العمليات "الارهابية" التي قام بها متطرفون محسوبون على الإسلام. بطبيعة الحال كان ميالا لحظر لبس الرموز الدينية في الإدارات والمدارس تفاديا لاستفزاز علمانية الدولة، ولكنه يقول إنه لا يسمح بإلزام طالب الجامعة بالامتناع عن هذا اللباس، لأن طالب الجامعة وصل سنا يستطيع فيها أن يتمتع بحريته في اللباس وغيره، وقد فرضت العمليات "الإرهابية" التي جرت في عهده نفسها على أداء الحكومة، أداء نجح في تطويق المسألة، ومنع ذيولها دونما إلحاق ضرر بالحرية المتاحة للناس، ولربما أضعف تركيز الحكومة على قضايا مهمة أخرى. أراد أن يكون له دور عسكري ضد النظام في سوريا عندما وصلت تقارير عن استعمال أسلحة كيميائية، وهنا يعرفنا أن النظام الفرنسي لا يقيد الرئيس في التوجيه بعمليات عسكرية عاجلة، بينما يصعب اتخاذ قرارات كهذه على رئيس وزراء بريطانيا، وكذلك صعب على (الرئيس الأميركي السابق باراك) أوباما الذي فاز في انتخابات الرئاسة بناء على تعهده بسحب الجيش من العراق. والنتيجة كانت إعاقة أي عمل عسكري ضد نظام سوريا، وفتح الباب للتدخل الروسي.

ويظهر الرجل اهتماما كبيرا بالعمل الأوروبي المشترك، ويرى أن دعاة الانفصال عنه يُضعفون دولهم، ولا يكتسبون ما ادعوه من مزايا الانفصال، ومن خلال كلامه عن التفاوض المطول مع الزعماء الأوروبيين يتضح كيف يريد الساسة أن يحل التفاوض مكان القوة، ولعل هذا يذكرنا بالحرب العالمية (الأولى والثانية) وكيف يمنع حدوثها ثانية، كتب عن اجتهاد فرنسا في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية التي دكت اليونان وإسبانيا والبرتغال، والتي كادت تؤدي إلى خروج اليونان من السوق الأوروبية، وكان دوره مهما في التأثير على الموقف الألماني، يظهر لنا كم كانت المستشارة (الألمانية أنجيلا) ميركل زعيمة مهمة وقادرة، نلاحظ أن فرنسا حريصة على التعاون مع ألمانيا التي أصبحت مكمن القوة في أوروبا.

والهجرة غير الشرعية تهدد الأمن الأوروبي، والبعض يريدون إغلاق هذا الباب نهائيا، ومنعها نهائيا أكثر تهديدا للأمن الأوروبي، لكن هولاند وبدعم من ميركل عملا على تقاسم أعداد مهمة من اللاجئين واستيعابهم بعد تقسيمهم على الدول حسب قدرتها، ويقر بخطأ حكومته حين رفضت هجرة عائلة من كوسوفا لأن شروط الهجرة لا تنطبق عليها، وكان الخطأ حين ذهب موظفو وزارة الداخلية لاحتجاز الابنة من مدرستها ومن بين زملائها، الأمر الذي ذكر الكثير من الفرنسيين بما كانت تطبقه حكومة فيشي بشأن المقاومين، ورغم أن الحكومة قد وفرت رعاية تعليمية خاصة ببنات هذه الأسرة، إلا أن جراح البعض لم تبرأ، وأدى إلى استقالة إحدى وزيرات الحكومة. كما يتأسف على محاولة حكومته تشريع قانون تقدمت به حكومة سلفه، يمنح الحكومة حق سحب الجنسية من "الإرهابيين" مزدوجي الجنسية بعد إكمال عقوبتهم، والتحفظات على عدم المساواة في العقوبة جعلته يتألم. رغم أن الموضوع يتعلق "بالإرهاب"، ولكنه حساسية الالتزام بالعدالة. ومما لاحظت من الإحساس المرهف بالعدالة ما ذكره من محاولة تشريع قانون سبق لفرانسوا ميتران طرحه، وهو أن يعطي حق التصويت في الدوائر المحلية لكل من عمل عددا من السنوات في فرنسا حتى ولو لم يحصل على الجنسية، لأنه ساهم في تقوية فرنسا ودفع لها الضرائب!

وربط الرجل مستقبله السياسي بتعهده أن يعكس منحنى البطالة، ويقول إن معظم من حصل على أغلبية قد خسرها بسبب عدم القدرة على تخفيض نسبة البطالة، ويقول إنه بعد 3 سنوات من الولاية بدأ الاقتصاد الفرنسي بإعادة خلق فرص العمل بإيقاع يفوق مرحلة ما قبل الأزمة، ونزلت نسبة البطالة إلى 9.2%؜ من السكان القادرين على العمل، وهو رقم أدني من المستوى الذي كان عليه عندما تسلم الحكم. وفي السنة التي تلت استمر عدد طالبي الوظيفة في الانخفاض، وزاد معدل النمو الاقتصادي من صفر عندما تولى إلى 2% عند انتهاء ولايته، وانخفض العجز العام إلى 3%، ويتابع أن الانتعاش الاقتصادي الذي تحقق جرى في بيئة أوروبية محبطة، مما حرمه من إظهار نجاحه بوضوح، إضافة إلى العمليات "الإرهابية" والانقسام داخل المعسكر السياسي، ومما يذكره من نجاحات ملموسة أن زعيمة حزب الخضر التي تولت وزارة الإسكان في العام الأخير من ولايته، سلمت ما يقرب من 500 ألف مسكن للمحتاجين إليه، وفقا للوعد الذي قطعه هولاند على نفسه عام ولايته 2012.

يقول هولاند إنه قدم نفسه على أنه مرشح عادي، يمارس مسؤولياته ببساطة ولكن على أكمل وجه، ملتزم بألا يضع نفسه خارج القوانين

محطات هامة

وحين يفصل في سياساته الاقتصادية لإعادة الهيكلة يذكر تفاصيل قد تهم المختصين، لكنه راعى في كل الإصلاحات ألا تؤثر سلبا على الفئات الضعيفة، ويقول إن 12 مليون عائلة لم تعد تدفع ضريبة على الدخل، كما ساعدت في تحرير شركات فرنسية من شركات عولمة سيطرت عليها بفعل قوانين "الغات"، وتم تعديل التفاوت في الدخول بالتوسع في تأهيل العمال الأقل حظا، كما حارب التهرب الضريبي الذي كان يحدث بتهريب البعض أموالهم لملاذات ضريبية آمنة، وفصل وزيرا مهما في الحكومة بسبب التهرب الضريبي، قضية كان يمكن تسويتها بغير ضجيج. والخلاصة أن منسوب دخل الصناعة قد ارتفع ضمن الدخل القومي لفرنسا.

وتحقق للفئات المهمشة في عصره الكثير من الفرص، ونقص عدد الذين يخرجون من المدارس بلا تأهيل بمقدار الثلث، وأعطى حق التقاعد المبكر مدة سنتين لمن بدأ العمل قبل سن الـ 18 ليستمتعوا بحياتهم، وتم الاتفاق على إعطاء العامل مهلة عامين يتقاضى فيها راتبه من الشركة في حالة الاستغناء عنه بسبب تحويل بيئة العمل إلى بيئة افتراضية، ووُضعت حلول إضافية لهذه المسألة. وتم إنشاء حساب مشقة العمل، وهذا الحساب يوفر لمن عاش ظروف عمل شاقة وقتا متاحا يستطيعون خلاله أن يقرروا بحرية موعد تقاعدهم، وهو قرار تراجعت عنه الحكومة التي تولت بعده.

ويقول هولاند إنه قدم نفسه على أنه مرشح عادي، يمارس مسؤولياته ببساطة ولكن على أكمل وجه، ملتزم بألا يضع نفسه خارج القوانين، وأنه المواطن الأول، يحترم السلطات التي لا تتعلق به كالبرلمان والقضاء، وقدم مثالا في التقشف، وتم تخفيض أجر رئيس الدولة وأعضاء الحكومة بنسبة 30% وتخفيض ميزانية رئاسة الجمهورية بنسبة 10%، وتخلى عن حقه في عضوية المجلس الأعلى للدستور مدى حياته مثل أي رئيس فرنسي آخر. وعلى المستوى الدولي لديه التزام بالدفاع عن كوكبنا ضد التلوث وأزمات المناخ، ومعجب بشخصية أوباما، ويستفزه ترامب، تفهم من تعليقاته أن ترامب لم يكن شخصية تستحق الثقة، والأمر كذلك بالنسبة إلى بوتين الذي استطاع استثمار نقاط الضعف في العلاقات بين أميركا وأوروبا لصالحه، وسادت لغة المجابهة والصراع علاقته مع دول مجموعة الكبار الثماني، وإهماله الحديث عن ساسة إنجلترا بدا لي مقصودا.

من علامات النضج الذي اراه أن يكون العمل في السياسة مرتبطا ببرنامج يتعهد السياسي بإنجازه، ولو تبين له صعوبة تحققه فهو لا يهدر طاقته في الجري وراء سلطة يستخدمها لإرضاء شهوته للزعامة دون قدرة على إنجاز برنامج يتفق عليه من الناخبين

الفكر والشجاعة

هولاند رجل يظهر شجاعة تستحق الثناء، ما أسماه سلام الذاكرة، تضمن اعتذارا عن أخطاء وقعت فيها السلطة السياسية الفرنسية في التعامل مع الشعب الجزائري، أدت إلى قتل أعداد من الجزائريين بلا مبرر، خاصة من قُتل ممن كان يخرج في مظاهرات سلمية تأييدا للجبهة الوطنية الجزائرية. وهناك أمثلة أخرى، اعترف الرجل فيها بخطايا فرنسا الاستعمارية. يقول إنه فتح أرشيف فرنسا حتى لا يبقى شيء مخفيا، إن ترؤس فرنسا يعني أن تشير إلى المساهمة التي تسديها للعالم بثقافتها وتنويرها، ولكن يعني أيضا أن تقول الحقيقة، بما فيها الحقيقة التي تمسها هي.

ويقدم هولاند توصيفات متعددة للسياسة، يقول مثلا إن السياسة هي فن التنفيذ، لأنها تصطدم أحيانا بالبطء وبالتثاقل وبالعادات والموانع، وفي موقع آخر يقول إن السياسة هي فن التجميع، التجميع حول فكرة أو برنامج سياسي، كما أنها تتمثل في بناء فريق التنفيذ، كما أن السياسة تتضمن واجب الانشقاق، والسياسة توحد من يقبلون العقد المشترك، وتبعد من يُخلون به. وربما يقصد بفن التجميع محاولته ضم قوى من غير حزبه إلى حكومته كما حصل مع حزب الخضر، وكما حصل من تصعيده لماكرون، ومن يقرأ ما كتبه عن ماكرون الذي وصفه بالمستشار الزئبقي، يرى شخصية جذابة مجتهدة قادرة على الإنجاز، نقطة قوته تكمن في قدرته على نسج شبكة علاقات اجتماعية من حوله، يجيد المراوغة والمناورة، ومن أجل طموحاته السياسية يضحى بأي صديق، ولا يدين بالفضل لأي أحد، حتى ولو كان هولاند الذي لولاه ما صعد ماكرون السلم السياسي بسرعة أوصلته إلى أن يكون أصغر رئيس فرنسي.

من علامات النضج الذي أراه أن يكون العمل في السياسة مرتبطا ببرنامج يتعهد السياسي بإنجازه، ولو تبين له صعوبة تحققه فهو لا يهدر طاقته في الجري وراء سلطة يستخدمها لإرضاء شهوته للزعامة دون قدرة على إنجاز برنامج يتفق عليه من الناخبين، ولذا فإن الرجل كان يرغب في الاستمرار دورة أخرى، لكي يضمن نجاح السياسات التي انتهجها والتي تحتاج نتائجها وقتا لتظهر، لكنه وجد أن اليسار سينقسم بين أكثر من سياسي مما سيعطي فرصة لليمين المتطرف للفوز، ولذا فضل ألا يدخل الانتخابات، وهو رأي أحترمه جدا، ولو دخل السباق فلربما رأينا أنه يفعل مثلما فعل غيره، إذ يستغل إمكانيات دولة هو على رأسها لمصلحته، وهو أمر غير عادل، وأدى إلى فوز كثيرين ولكنه أطاح بقيمتهم السياسية والأخلاقية. والأمثلة على ذلك كثيرة.

ويخصص هولاند الفصل الأخير من مذكراته للحديث عن دور اليسار وإنجازاته في الحياة السياسية في أوروبا، ويبين إمكانياته في لجم تغول الشركات الرأسمالية وأنسنتها، وتعديل مسارات العولمة لتكون في خدمة البشر لا في خدمة المنتجين الاقتصاديين، وترشيد الانفتاح لكي يعمل لإتاحة الفرصة لانتقال البشر والسلام بينهم لا انتقال البضائع، ويقدم رؤية لمستقبل الاشتراكيين الديمقراطيين بين التحلل والارتقاء. والكتاب ليس مهما فقط لكونه مذكرات ولكنه يضع القارئ في صورة الفكر والممارسة السياسية في أوروبا، ورغم الترجمة الجيدة إلا أن الكتاب يفتقر إلى هوامش كافية تعرف بالسياسيين والأحداث التي تمت الإشارة إليها، منها ما لا يتوقع أن يعرفه القارئ العربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.