شعار قسم مدونات

عبودية الصحافة

الروبيو بين الكتب والمجلات والجرائد.
الأصل أن ينقل الصحفي الخبر بصدق وإن شاء عالجه وفق رؤية موضوعية حجية (الجزيرة)

حين تعتقد الحكومات أن الصحفي حتما عدو لها تحذره وأن اصطفافه في صف الموالاة أو تجنيده في المخابرات هو صك تبرئته من تهمة المعاداة، فنحن أمام سوء فهم معقد يجعل الصحفي في جفن الإعصار، حيث يظهر الفساد في البر والبحر وتنقلب البيئة الإعلامية الحرة والآمنة المطمئنة إلى بيئة الرق والقلق، ويسقط بذلك الحق الطبيعي الذي ولد مع الإنسان، حق الحرية، وفي بعض الحالات يسقط حق الحياة أيضا في مشهد اغتيال يعكس مدى بشاعة الاستبداد وإجرام المستبدين، فهل حرية الصحافة تشكل تهديدا على الدولة؟

إن البحث في خلفيات ودوافع الكثير من الحوادث سينتهي بنا إلى الجواب نفسه دائما، ففي سنة 2017 خطت "دافني كاروانا غاليزيا" آخر خطواتها على وجه الأرض نحو سيارتها الملغمة، كانت محاولة ناجحة لاغتيال امرأة مالطية اشتهرت بتحقيقها الصحفي الموسوم بـ "وثائق بنما" الذي يفضح تورط مئات الشخصيات النافذة حول العالم في عمليات فساد مالي، بينهم مسؤولون من بلادها. وهناك أيضا "جوليان أسانج" الصحفي الشريد الطريد في أزقة بريطانيا إثر تسريبات ويكيليكس التي تفضح ممارسات الحكومة الأميركية، وغيرها من مغامرات الصحفيين الخطرة الذين يجمعهم قاسم مشترك هو دافع الاستهداف.

فهم ماهية مهنة ومهام الصحفي يمكنه أن يحل جزءا كبيرا من المشكلة، إذ ينبغي أن يكون لدى الجميع الإدراك اليقيني أن التنميق اللفظي وتجميل الوجه الدميم وتشنيع الغير وتبشيع الوجه الحسن ليست من مهام الصحفي

وماذا بعد؟ إن حرية الصحافة لا تهدد الدولة، إنما تزعج السلطة الفاسدة أو الكسولة أو الغبية، فالفاسدة تخشى انكشاف فسادها، والكسولة تخشى انكشاف إخفاقاتها وتضييعها للوقت والفرص، والغبية تخشى انكشاف ضحالة أفكارها، وهذه الأنواع تعتبر التضييق والتقتير وأحيانا القتل منجى وملجأ لها من العتاب المشدد، فهل وجد الصحفي ليكون معارضا أم ليكون مواليا للأنظمة السياسية والحكومات المتتالية؟

مما لا شك فيه أن فهم ماهية مهنة ومهام الصحفي يمكنه أن يحل جزءا كبيرا من المشكلة، إذ ينبغي أن يكون لدى الجميع الإدراك اليقيني أن التنميق اللفظي وتجميل الوجه الدميم وتشنيع الغير وتبشيع الوجه الحسن.. كلها ليست من مهامه، والأصل أنه ينقل الخبر بصدق وإن شاء عالجه وفق رؤية موضوعية حجية، أما نشاط المعارضة أو الموالاة فليس مهمته عدا أن يختار لنفسه توجهه وموقفه الذي يخصه ويعبر عنه بما لا يخل بحياديته أثناء عمله.

المشكلة تكمن في تجنيد الصحفي وتحويله إلى مخبر يخدم مصالح السلطة السياسية الضيقة وليس المصلحة الوطنية

ثم إن الدولة القوية والسلطة النزيهة تعي جيدا أن حرية الصحافة سر كامن من أسرار قوتها، فالصحفي الذي يؤدي دورا أشبه بالرقيب يدلها على مكامن النقص والخلل وينبهها لمعالجة الأمر، وبفتح مجال النقاش يتيح فرصة لتحيين الأفكار وتحديث الرؤية، وهذا ما لم تدركه معظم دول العالم الثالث إذ تحرص على تجنيد الصحفيين كمخبرين لأهداف متعددة، وما بيان التعزية الذي أصدره جهاز المخابرات في وفاة الصحفي "ياسر رزق" إلا دليلا على أنه كان أحد أوفى عملائه، وما هو إلا مثال من قبله الأمثلة.

إن المخبر يمكن أن يكون صحفيا وهميا، أو كاتبا وهميا، أو إماما وهميا، أو فنانا وهميا، ولا حرج في ذلك، فالمخبر يلعب كل الأدوار لأداء مهمته، ولكن المشكلة تكمن في تجنيد الصحفي وتحويله إلى مخبر يخدم مصالح السلطة السياسية الضيقة وليس المصلحة الوطنية، وهنا يمكن تخيل مستوى الممارسة الإعلامية ومناخ بيئتها في ظل سيطرة أفراد ليست لهم إحاطة بشعابه وينتمون في الأصل إلى جهاز أمني أو أفراد تحولوا من صفة مهنية إلى صفة مهنية أخرى، ولقد بان عمق جروح قطاع الإعلام التي قد لا تكفيها السنون القليلة للاستطباب والتعافي بالنسبة لبعض البلدان، فأثر قانون "لا أريكم إلا ما أرى" أثر كارثي.

إن السلطة السياسية التي تشعر وكأن السلطة الرابعة ضرة تنافسها في النفوذ والسيطرة ينبغي أن تشعر بالخجل، وإن حرية الصحافة في إطارها الأخلاقي ينبغي التعامل معها كمصدر للقوة وليست مصدرا للقلق، فالرقابة التحريرية شكل من أشكال العبودية تدمر طاقة الإبداع والإنتاج ولا تبني مجد الدول أبدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.