شعار قسم مدونات

حتى المشاعر تنتخب

الانتخابات التركية (غيتي)

مضى على تلك الليلة أسبوعان، وظل منتظرا بشوق هذه الليلة!.

في حديثه عن تلك الليلة، قال إنه بقي يتابع بلهفة مستجدات البيانات التي كانت تصدر تباعا، فلم ينم حتى وقت متأخر.

هو ليس من أقرباء أردوغان ولا من أصدقائه، كما أنه ليس أحد المنتمين لحزبه، بل إنه أيضا ليس مواطنا تركيا. لكنه رغم ذلك شعر بأنه معنيٌّ بالنتيجة التي ستؤول إليها الانتخابات. وإن قراءة المشهد آنذاك تؤكد أن ذلك الشعور الذي تملَّكه، لم يكن خاصا به، بل عمَّ شريحة واسعة من الناس، يجمعهم الانتماء لأمة الإسلام التي تمتد جغرافيتها من غانا إلى فرغانة.

التمنيات بأن يحقق أردوغان الفوز، ويتابع مسيرته في إدارة بلاده لم تكن حميّة لشخص، بقدر ما كانت تأييدا لنهج، وولاء لمبدأ، وتطلعا لانتعاش آمال أمة -طالت عليها عهود المذلة والقهر- في أن تنهض من جديد، فتكسر القيود، وتزيح السدود، وتنطلق إلى تحقيق رفعتها وعزها، واستعادة مكانتها اللائقة بين أمم الأرض، فإن ذلك إذا ما حققته دولة مسلمة، صار مرجوّا أن تغدو قوة الدولة قوة للأمة، وأن ينتشر دبيب الحياة الذي حل في بقعة من جسد الأمة، ليعمَّ الجسد كله.

والحقيقة أن تجربة أردوغان السياسية، التي تتابعت خطواتها في مناصب الدولة ومواقع الحكم، شكلت علامة بارزة في تاريخ تركيا، وأعطت العالم الإسلامي إشارات ورسائل تضيء الطريق لمن أراد الوصول.

آثرنا في هذه المقالة الإضاءة على بدايات مسيرة أردوغان السياسيّة، التي لا يشار لها كثيرا هذه الأيام، وتركنا الخوض في تفاصيل ما حققه لاحقا، على اعتبار أن ذلك لا يخفى على المتابع اليوم.

علامات فارقة

في حفل جرى مؤخرا في مدينة إسطنبول، قال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان، مخاطبا المواطنين: "بالقوة التي اكتسبتها من المحبة، قضيت حياتي السياسية كلها في خدمة الشعب، إذ تقلدت منصب رئيس بلدية مدينة إسطنبول، ثم أصبحت رئيسا للوزراء ورئيسا لتركيا، ولم أتخلَّ أبدا عن هذا المسعى، أو هذا التصميم". وهذا القول لم يكن مجرد ادعاء، وإنما حقيقة يشهد بها الخصوم قبل الأنصار، وتؤكدها الوقائع على الأرض.

تولى أردوغان رئاسة بلدية إسطنبول عام 1994، وكانت آنذاك محمَّلة بديون بلغت ملياري دولار. ومع تحول إدارة المنصب إلى يد نظيفة تقدم خدماتها ولا تسرق، تم خلال زمن قصير سداد الديون، ليتم بعد ذلك الانتقال إلى تحقيق الأرباح وإحداث التنمية بعد الاستثمارات التي جلبها أردوغان للمدينة. وهذا التحول الكبير قرَّب أردوغان من الناس، لا سيما الطبقة الكادحة من العمال الذين رفع أجورهم وأعطاهم حقوقهم في الرعاية الصحية والاجتماعية.

ولئن كان في ذلك عجب، فأعجب منه أن يُفترى عليه، رغم إنجازاته، من قِبَل أرباب التوجه العلماني باتهامات كيدية، تودي به إلى الحكم بالسجن 4 أشهر، فلا يتزحزح عنده خلق الوفاء، بل يخاطب الحشود التي رافقته في طريقه إلى السجن الذي سيدخله بكلام ينم عن أخلاق عالية ونفس سامية، وكان مما قاله: "سأقضي وقتي خلال هذه الشهور في دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، والتي ستكون إن شاء الله أعواما جميلة، سأعمل بجد داخل السجن وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه، ابذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين وحقوقيين متميزين".

آثرنا في هذه المقالة الإضاءة على بدايات مسيرة أردوغان السياسيّة، التي لا يشار لها كثيرا هذه الأيام، وتركنا الخوض في تفاصيل ما حققه لاحقا، على اعتبار أن ذلك لا يخفى على المتابع اليوم. ولكن، حسبنا الإشارة إلى أن المبادئ والقناعات التي أظهرها أردوغان في البدايات لازمته في مسيرته السياسيّة في أثناء توليه رئاسة الحكومة ثم رئاسة الدولة، فقاد تركيا لتحقيق نهضة كبرى للدولة شملت الجوانب السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، فصارت لتركيا مكانتها وهيبتها في المحافل الدولية، وتطورت صناعتها وتشعبت بشكل مذهل، حتى صارت تصنع كل شيء، وحققت الاكتفاء الذاتي، ومارست حقها في استثمار ثرواتها دون إذن الآخرين، وارتقت مؤسساتها التعليمية، وضمنت لمواطنيها أسباب الحياة الحرة والعيش الكريم.

خوض ميادين السياسة وإدارة الدولة والمجتمع أساس في إسلامنا لا يجوز تركه أو التخلي عنه، وإلا وقعنا في المحظور الذي نبه له أستاذ أردوغان، نجم الدين أربكان، عندما قال: "المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام"

المسار والرسالة

لا يمكن الفصل بين النهج الذي اتبعه أردوغان في سياسته، وبين خلفيته الدينية. وهذا النهج يشكّل ترجمة عملية لقناعاته وتوجهاته بوصفه إنسانا مسلما يعيش واقع العصر. وإن المسار الذي اتخذه أردوغان لَيَحمل في طياته رسائل وتوجيهات لقواعد سلوكية في الحياة، لا ينبغي أن يفوتنا فهمها.

ولعل أولى هذه الرسائل أن خوض ميادين السياسة وإدارة الدولة والمجتمع أساس في إسلامنا لا يجوز تركه أو التخلي عنه، وإلا وقعنا في المحظور الذي نبه له أستاذ أردوغان، نجم الدين أربكان، عندما قال: "المسلمون الذين لا يهتمون بالسياسة، يحكمهم سياسيون لا يهتمون بالإسلام". وتحقيق هذا الأمر يتطلب درجة عالية من الصبر والمصابرة، والإصرار على إيجاد السبل للتعامل مع الواقع القائم، وتذليل العقبات، ولولا الأخذ بذلك كله، لما كانت ثمة وسيلة لتجاوز العوائق والأخطار الكبرى التي وضعتها العلمانية المتجذرة في الحكم، والتي لم تُخفِ عداءها لأي توجه إسلامي يسعى لإثبات وجوده في الدولة.

ولئن كانت السياسة في فهم وممارسة كثيرين يشوبها المكر والتلون والخداع، فإنها عند المسلم الحق مسؤولية يستشعر ثقلها، وأمانة يدرك أنه محاسب على حسن أدائها. وبهذا يغدو وصول المسلم الواعي حقيقة إسلامه إلى سدة الحكم مقدمة خير لبلده وأمته، بل وللإنسانية جمعاء.

ومع ما سبق، تحمل لنا تجربة أردوغان رسائل أخرى كثيرة، فإسلامنا مصدر قوتنا وعزنا، لا يقبل لنا إلا أن نكون أعزة بين أمم الأرض، وهو يدفعنا لأن نكون حملة خير للإنسانية، نرفض أن يتفرد المتغطرسون برسم السياسة التي تحكمها، وهذا هو الفهم الذي أعلنه أردوغان مرارا في قوله: "العالم أكبر من 5″، مشيرا بذلك إلى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن.

إنها تجربة ملهمة، ولا ينكر ذلك إلا جاحد أو خسيس.. وصاحب التجربة ليس معصوما عن الخطأ، ولكن من غلبت حسناتُه سيئاتِه وُهب نقصه لفضله.

المشاعر تنتخب

انتظر العالم موعد جولة الانتخاب الثانية في 28 من أيار الحالي، وها هي قد تمت وتحقق نصر أفرح الله به قلوب المؤمنين.

وصحيح أن الانتخاب اقتصر على حملة الجنسية التركية، لكن الكثيرين من مسلمي العالم رأوا أنهم معنيّون بالنتيجة. وتلهفت مشاعرهم لسماع خبر إعلان أردوغان رئيساً لتركيا لجولة أخرى؛ وهذا هو انتخاب المشاعر رددته الألسنة دعاء إلى الله أن يحقق المنى.

كل أولئك دعوا الله بذلك لأنهم يفرحون لخير يعم إخوة لهم في الدين.

كلهم توجهوا بدعاء خالص إلى الله بذلك لأن قوة الإسلام هناك يؤمل أن تشد عضد المسلمين في أنحاء الأرض.

كلهم دعوا الله بذلك لأنهم بشوق ليروا من جديد عز الإسلام، ولتتحقق عزة المسلمين.

فرحوا وفرحنا، وانتعشت عندنا وعندهم الآمال، وإننا وإياهم ننتظر مستقبلا مشرقا ينسينا آلاما سبقت.

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر ولله الحمد

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.