شعار قسم مدونات

إزمير الأتاتوركية.. عشية الانتخابات الرئاسية

IZMIR, TURKEY - APRIL 30: Supporters wave flags and chant slogans while waiting for the arrival of CHP Party presidential candidate Kemal Kilicdaroglu during a campaign rally on April 30, 2023 in Izmir, Turkey. CHP leader Kemal Kilicdaroglu is holding campaign rallies across Turkey ahead of the countries May 14, 2023 presidential and parliamentary elections. The Kilicdaroglu-led Nation Alliance is representing six opposition parties in next month's election against President Recep Tayyip Erdogan's 20-year rule. (Photo by Burak Kara/Getty Images)
الأتراك من أكثر الأمم تصويتا في الانتخابات (غيتي)

خرجتُ من الفندق بعدما انقشعت عباءةُ الليل عن المدينة القوْسيّة المستلقيةِ دلالاً على بحر إيجه. كل شيء هنا يتنفس السياسة في هذه المدنية الكمالية. إذ تعرف إزمير بتبعيتها لحزب الشعب الجمهوري وفاءً للمبادئ العلمانية المتطرفة التي أرساها مؤسس الحزب كمال أتاتورك. خرجتُ من الفندق وعبرت الشارع الهادئ متوجها إلى أحد مراكز الاقتراع التي تشهد أول جولة إعادة رئاسية في تاريخ تركيا. حتى مكان الاقتراع ذو دلالة هو الآخر، فهو داخل "ثانوية كمال أتاتورك".

مررت على الطريق الساحلي الفاتن. كأن إزمير تحتضن البحرَ، وهي تنظر غربا إلى اليونان غيرَ مقتنعة بمكانها الجغرافي والحضاري. ودتْ لو عبرتْ إلى الضفة الغربية لتكون جزءًا من أوروبا، أو ليكون لها قدم داخلها -على الأقل- كما وقع لإسطنبول.

سرتُ متأملا الجالسين على كراسي المقاهي المنتشرة في الحي المطل على البحر. سحناتٌ متشاكسة تُذكر بماضي المدينة العتيق. دماء أوروبية فوّارة، وأنوف عربية صقرية، وعيون آسيوية تذكر بطبقات الغزاة والعابرين الذين زاروا "أجمل مدينة تحت الشمس"، حسب وصف الفيلسوف اليوناني أبولونيوس التينائي.

تميزت إزمير بالتنوع منذ سيطر عليها المسلمون. فظلت مدينة مختلطة؛ شأنها شأن الحواضر الإسلامية الكبرى التي كانت دوما جنة للأقليات.

فإزمير، شأنها شأن كثير من المدن الساحلية، مدينة لا ترد كفَّ لامس. فهي مرفأ تجاري منذ القدم. ولذا عَرفت أزقتُها كل الأقدام، وذاق سكانُها كل البضائع، وسمعتْ آذان أبنائها ضروب الأغاني بكل الألسنة، وامتلأت سماؤها بكل الصلوات. فهي من المدن العتيقة التي عرفتِ السراء والضراء، وتنافست عليها الإمبراطوريات، وجربتْ في حياتها الممتدة أفانين الأعراس والمآتم.

تميزت إزمير بالتنوع منذ سيطر عليها المسلمون. فظلت مدينة مختلطة؛ شأنها شأن الحواضر الإسلامية الكبرى التي كانت دوما جنة للأقليات. فيحدثنا الرحالة قبل مئتي عام أنها تحوي 15 مسجدا، و7 كنائس للنصارى، و7 بِيعٍ لليهود.

ولئن كان أردوغان وكليجدار أوغلو يتنافسان عليها اليوم، فلقد ظلت طيلة تاريخها مرغوبة للقادة والإمبراطوريات. ولعل آخر الحروب التي شهدتها حرب الاستقلال، حيث احتلها اليونانيون عام 1919 فارتكبوا فيها الفظائع. لكن الجنود الأتراك القادمين من الأناضول حرروها عام 1922. حررها جنود قادمون من "الأناضول التي تقف أبدا حارسةً لعرقها ودينها من آثار الشواطئ"، حسب المؤرخ أرنولد توينبي.

قبل وصولي لمركز الاقتراع، اخترتُ مقهى مطلا على البحر، وعن يمينه الميدان الذي شهد خلال الأسابيع الماضية التجمعات الانتخابية لكل من أردوغان وكليجدار أوغلو. ولّيتُ وجهي شطر أمواج بحر إجيه. بدت الأمواج الهادئة ذكرى حية من الماضي.

ظهرت اللحظة التاريخية الانتخابية التي جئتُ لأغطيها ثانيةً سريعة منطمرةً في أحشاء القرون. تأملت تلاطم الأمواج، ومرتْ سفينة تتهادى، ودوتْ صافرة من بعيد.. كم مر هنا من العبيد والتجار والزهاد واللاجئين والسحرة والغزاة والدراويش؟ ثم تمشي الليالي في تعاقبها المتكاسل على هذه المدينة الأبدية غير عابئة. هل مر أحد من أجدادي من هنا؟ من يدري؟ هل بيني وبين آدم من نزل ذات صباح على هذا الساحل ليدخل هذه المدينة؟ خطر لي أنَّ أمسَّ الناس رحما بي ممن عبروا من هنا قد يكون الرحالة ابن بطوطة. ولعل المقارنة بين أجواء دخوله لها ودخولي إليها كافية لإبانة التغيرات الهائلة التي شهدتها المدينة المعروفة اليوم بقلعة العلمانية التركية.

يقول ابن بطوطة: "يزمير مدينة كبيرة على ساحل البحر معظمها خراب ولها قلعة.. لقينا بخارجها الشيخ عز الدين بن أحمد الرفاعيّ ومعه: زاده الأخلاطيّ، من كبار المشايخ، ومعه مئة فقير من المولَّهين، وقد ضرب لهم الأمير الأخبية وصنع لهم الشيخ يعقوب ضيافة وحضرتها، واجتمعت بهم. وأمير هذه المدينة عمر بك بن السلطان محمّد (..) وكان من مكارمه أن أتى إليّ بالزاوية فسلّم عليّ واعتذر، وبعث ضيافة عظيمة وأعطاني بعد ذلك مملوكا روميّا".

خطر لي أن انتقال الإنسان للصراع بواسطة التصويت قفزة بشرية هائلة إلى الأمام. فوحدها الشورى تنجح في إدارة الخلاف.

يبدو أن أحفاد أولئك الصوفية المولَّهين أصبحوا موليهن بالتلفت غربا. فقد سألتُ صحفية إزميرية عن أسباب تجذر التأييد الذي لا ينخرم رغم تلقب السياسة، فقلت لها: أنا ألاحظ أن همّ الناس الذي عليه ينتخبون هو الهم الاقتصادي. لكني رأيت هذه المدينة تصوت أبد الدهر لحزب الشعب حتى أيام الإبداعات الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية. ما تفسيركم؟

لعبت الفتاة بشعرها الذهبي وقالت: "هذه المدينة لن تصوت لأردوغان أبدا. فأهلها يرون أنه يلعب بالحريات، ويتدخل في حريات الأفراد.. انظر إلى رفعه الضرائب على الخمور، وإلى تقييده أوقات الشرب". وفهمت أن الأيديولوجيا عند بعض الناس هنا سابقة على معايير كثيرة.

شربت آخر قطرة من الشاي التركي، ووقفت متجها إلى مركز الاقتراع. وعندما وصلت كانت اللوحة دالة جدا. العجائز المتوكئات على عصيهن يتهادين للتصويت، والشباب ذوو العيون المرهقة سهرا يقفون في الطابور للتصويت المبكر كذلك.

فالأتراك من أكثر الأمم تصويتا في الانتخابات. جلستُ ساعة متأملا الداخلين والخارجين، ثم خرجت إلى الشارع العام حيث الأشجار العالية والشوارع الهادئة إلا من عجوز تماشي كلبا، أو مسرع إلى مركز اقتراع. ثم أرسلت بصري مع الجبال المطلة على البحر.. بحر إيجه الذي تمتلئ أحشاؤه بتاريخ صراع الإنسان على القوة والسلطة والنفوذ.

وخطر لي أن انتقال الإنسان للصراع بواسطة التصويت قفزة بشرية هائلة إلى الأمام. فوحدها الشورى تنجح في إدارة الخلاف. أما اختفاء الخلاف فأمر ليس في طوق البشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.