شعار قسم مدونات

مغالطات فتوى إباحة فوائد البنوك الربوية (1)

اتفق العلماء على القاعدة الشرعية "الغنم بالغرم" وهذه القاعدة واضحة الدلالة بعدم جواز التربح أو الزيادة في ما ليست فيه مخاطرة خسارة (شترستوك)

أطلعني أحد الأساتذة الكرام على مقطع فيديو على يوتيوب لأحد مشايخ الأزهر الشريف سأله أحدهم عن فوائد البنوك الربوية، فكان جوابه القطعي من دون تردد أنها مباحة شرعا، بل قام بمهاجمة القائلين بالتحريم ووصفهم بأوصاف سيئة كالسرقة والكذب والتدليس على الناس، بل وكان في كلامه نوع من الهجوم على السائل؛ كيف يسأل مثل هذا السؤال! ثم سرد عدة أدلة وبراهين (حسب رأيه) يؤكد فيها الحكم بجواز التعامل مع البنوك الربوية، وللأسف الشديد فإن هذه الإجابة التي قالها بثقة منقطعة النظير فيها مغالطات كثيرة وأخطاء كبيرة، لا تصدر من عالم محقق وشخص يخاف الوقوع في الزلل، خاصة أننا نتكلم في مسألة من أكبر الكبائر ألا وهي "الربا"، وكان من الطبيعي أن يكون الحديث عنها ذا حساسية لمن يخاف الله عز وجل ويتقيه ويفتي للناس في أمر على هذا المستوى من الخطورة، ولكن العكس هو الذي ظهر في كلامه.

لقد تطرق في هذا المقطع لعدة نقاط استند إليها في زعمه بأن فوائد البنوك الربوية مباحة شرعا، ويمكن تلخيصها في الآتي:

  • إن البنوك تطورت وأصبح عملها الاستثمار بعد أن كان الإقراض بالربا فقط.
  • إن ثبات الربح في المضاربة قد يفسدها فقط، وهذا إن حدث فإنه من الصغائر وليس من الربا الذي هو من الكبائر، وإن هناك علما اسمه دراسة الجدوى ظهر منذ 100 سنة هو السبب في جواز تثبيت الربح في المضاربة.
  • الاستدلال على عدم حرمة الفوائد في البنوك الربوية بأن العملات الورقية سابقا كانت مغطاة بالذهب فكانت من الأصناف الربوية وبعد أن لم تعد كذلك أصبحت خارج الأصناف الربوية ولا يجري عليها الربا.
  • ادعى أن القائلين بحرمة فوائد البنوك هم الوهابية، وأن الأزهر يفتي بأنها جائزة منذ السبعينيات، وأن القائلين بالحرمة قد روجوا لذلك حتى لا يضع الناس أموالهم في البنوك ويتوجهوا بها إليهم لكي يسرقوهم كما فعل الريان، وأن الإخوان يروجون لذلك لتشويه سمعة الأزهر وعلماء الأزهر!

كلام خاطئ

ولبيان خطأ هذا الكلام أقول وبالله التوفيق:

أولا: الرد على قوله "إن البنوك تطورت وأصبح عملها الاستثمار بعد أن كان الإقراض بالربا فقط".

  • ربما تكلم الدكتور في هذا الموضوع بما لا يعرف أو أنه يدلس على الناس بدهاء عندما قال هذا الكلام؛ فمن المعلوم والمستقر من دون أي خلاف (عند المختصين) أن البنوك وظيفتها القانونية الأساسية هي الإقراض بفائدة أعلى مقابل اقتراض بفائدة أقل، وأن المتاجرة بأموال المودعين ممنوع عليها بنص القانون، وأن ما يطلق عليه "استثمار" في العرف البنكي هو المعنى اللغوي لكلمة "الزيادة"، والمقصود بها من الناحية الاقتصادية والمحاسبية هي عقود الاقتراض بفائدة ربوية. يدخل في ذلك حسابات التوفير والودائع البنكية، وشهادات الاستثمار، والسندات البنكية وغيرها من الصور التي تختلف في بعض شروط إصدارها، ولكنها تجتمع كلها في صفة واحدة وهي إقراض مال بفائدة ربوية.
  • إن البنوك الربوية لم تتطور إلا بتطوير أسماء منتجاتها التمويلية أو خدماتها المصرفية، ولم يحدث أي تطور على بنيتها الأساسية وعملها كمؤسسات إقراض، ولا يختلف في هذا الأمر أي أحد من الاقتصاديين أو الشرعيين.
  • أما نشاط البنك لصالح الشركات والمصانع وغيرها فليس من باب الشراكة في الاستثمار وإنما أيضا بالإقراض بفوائد ربوية، وما يحصله البنك من هذه الفوائد سواء من تمويل الشركات أو تمويل المشاريع أو تمويل الأفراد تعود بنسبة أقل إلى المودعين في البنك، سواء كانوا أصحاب حسابات توفير أو شهادات استثمار أو سندات، ويستفيد البنك من الباقي فهو يعتمد على التربح بصفة أساسية على هذا الفرق بين الإقراض والاقتراض.

ثانيا: الرد على قوله "إن ثبات الربح من المضاربة يفسدها فقط وهذا من الصغائر وليس من الربا الذي هو من الكبائر، وإن هناك علما اسمه دراسة الجدوى ظهر منذ 100 سنة هو السبب في جواز تثبيت الربح في المضاربة".

  • إن أي دارس للفقه وإن كان مبتدئا يعرف قاعدة شرعية أصيلة لا خلاف عليها وهي "العبرة في العقود بالمعاني وليس المباني". بمعنى أن المعتبر هو حقيقة الشيء وليس اسمه، فإن كان بعض الناس يطلقون على الزنا اسم زواج فلا يصح أن يقال عنه إنه زواج فاسد، بل هو زنا وكبيرة من الكبائر. ومجرد تغيير الاسم لا يعني شيئا إن كان حقيقة التعاقد تدل على مدلول آخر؛ وهذه القاعدة الفقهية تنفي كلام هذا الدكتور جملة وتفصيلا، فعقد المضاربة إن كان الربح فيه ثابتا فلا يجوز أن يطلق عليها اسم (مضاربة) لأن من شروط المضاربة أن تكون قابلة للربح والخسارة وعليه: فإن حقيقة هذا التعاقد الذي يكون فيه الربح ثابتا ومضمونا هو أنه: عقد إقراض بالربا، وليس كما قال يصبح مضاربة فاسدة!
  • تجدر الإشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي هو قاعدة شرعية مستقرة في الفقه الإسلامي ليس عليها خلاف وهي: "الخراج بالضمان". ومنه اتفق العلماء على القاعدة الشرعية "الغنم بالغرم". وهذه القاعدة واضحة الدلالة بعدم جواز التربح أو الزيادة في ما ليست فيه مخاطرة خسارة، والإقراض من العقود اللازمة المضمونة التي لا يجوز بإجماع الأمة التربح منه، فما دام المقترض يجب عليه رد رأس المال حتى وإن تلف في يده من دون قصد منه أو بإهماله أو تعديه وليس للمقرض علاقة بذلك ففي المقابل لا يجوز للمقرض أن يتربح من هذا الإقراض أبدا، وأي تربح في هذه الحالة هو من الربا المحرم المجمع على تحريمه، وهو من أكبر الكبائر.
  • أما القول إن دراسة الجدوى هي ما تبيح الأمر وتجعل ضمان المضاربة جائزا، فهذا غير صحيح فدراسة الجدوى لم تغير شيئا من طبيعة عمل البنوك وما هي إلا دراسة مالية يقوم بها البنك ليتأكد من ملاءة وقدرة الشخص المدين على سداد الدين، فإن كان المستدين أو طالب القرض من البنك مؤسسة أو شركة تجارية فإن دراسة الجدوى تشمل دراسة الجزء المتعلق بمشاريع هذه الشركة التجارية وأعمالها في السوق حتى تتأكد أنها قادرة على سداد هذا القرض ولا علاقة للبنك بمشاركة هذه الشركة أو الدخول معها في العمل التجاري الذي يخصها.
  • أما قوله إن العلماء حرموا ذلك في السابق لعدم وجود دراسة الجدوى في البنوك قديما فهو ادعاء غير صحيح، إذ ليست هناك علاقة من قريب أو بعيد بين الأمرين.

يتبع في مقال آخر..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.