شعار قسم مدونات

سحر الكلمات في زيادة خلايا مخ الأطفال

إذا أردت ابنا ذكيا فصيحا يعجب إليه من يراه، فعليك بالتحدث معه منذ اللحظة الأولى من ميلاده في شتى الموضوعات التي تشغلك، واكتساب مفردات جديدة لتحدثه بها وتثري معجمه اللغوي (شترستوك)

لم أكن أتصور يوما أن لكلمة "تكبير" المخ أساسا علميا، فبإمكان كل أب وأم فعل ذلك لطفلهما من دون عبء، إذ ثبت علميا أن التحدث إلى الطفل منذ المولد حتى سن الثالثة كفيل بزيادة عدد خلايا مخ الطفل ومعدل ذكائه وتحصيله الدراسي. فالكلمات بالنسبة إلى المخ كالغذاء بالنسبة إلى العضلات، فكلما تغذت العضلات نمت، وإن لم تحصل على الغذاء الكافي تقزمت، وكذلك المخ إذا لم يتعرض الطفل إلى سماع الكلمات، خاصة حديث الأب والأم أو ممن يقوم برعايته فسوف يتقزم مخه.

وما كنت أتصور ذلك حتى اطلعت على كتاب بعنوان "30 مليون كلمة" بالإنجليزية، فآثرت ترجمته لإثراء المكتبة العربية. وتعمل مؤلفة الكتاب جرّاحة أطفال، في تخصص زراعة القوقعة للأطفال الصم حتى ينعموا بالسمع، وقد تحولت إلى باحثة اجتماعية بعدما لاحظت تباينا واضحا في نتائج زراعة القوقعة لطفلين.

لأن مؤلفة الكتاب طبيبة أمينة أخذت على نفسها ألا ينتهي دورها عند إتمام العملية الجراحية، بل ينتهي دورها عندما يتعافى المريض

إذ أجرت عملية زراعة القوقعة لكل من زاك وميشيل، وكان زاك مريضها الثاني، أما ميشيل فكانت الرابعة، وكلاهما كان مصابا بصمم عميق عند الولادة وكانا متشابهين في أوجه كثيرة، وقد بدا على كل منهما قدرات متشابهة، فكلاهما لديه أم تحبه وتود دخوله في العالم الناطق، واستُخدم مع كل منهما أكثر الوسائل التكنولوجية فاعلية. لكن انتهى التشابه عند هذا الحد، فعلى الرغم من أنه كانت لكليهما القدرات نفسها وأُجريت لهما الجراحة نفسها، فقد جاءت النتائج مختلفة تماما.

ولأن مؤلفة الكتاب طبيبة أمينة أخذت على نفسها ألا ينتهي دورها عند إتمام العملية الجراحية، بل ينتهي دورها عندما يتعافى المريض، الأمر الذي جعلها تتابع مدى تحسن مرضاها، فوجدت أن زاك أصبح طفلا عاديا وتعلم القراءة في الصف الثالث، أما ميشيل فلم تكد تتقدم، بل ظلت من ذوي الاحتياجات الخاصة وبحاجة إلى اختصاصي السمع على الدوام.

وبعدما تساءلت الكاتبة: ما الخطأ الذي وقع؟ لقد ساعدت طفلين أصمين على أن ينعما بالسمع. فماذا حدث ليبدو هذا التباين الواضح في نتائج زاك وميشيل رغم نجاح زراعة القوقعة لكليهما؟ فراحت تستكشف الأسباب.

وبالاستقصاء، تبين لها أن الأمر يتجاوز غرفة العمليات ليصل إلى بيوت الأطفال والبيئة اللغوية التي يعيشون فيها، فالبيئة اللغوية الثرية أشبه بالأكسجين الذي قد يراه الإنسان من المُسلمات إلى أن يرى شخصا لا ينال القسط الوافي منه. وتجدر الإشارة إلى أن الأمر ليس متوقفا على الحالة الاجتماعية والاقتصادية، ولكن على مدى تحدث الوالدين مع الطفل.

لقد كان والدا زاك سبَّاقين في مناح كثيرة، منها أنه منذ تشخيص حالته عُلِّقت له سماعات، وكان يتردد عليهما في المنزل منذ البداية اختصاصي ليعمل معهما ومع زاك على تجريب تقنيات لتحسين نمو لغته. وشرعا في تعلم لغة الإشارة بالفعل، لأنهما أرادا أن يضمنا تمكن ابنهما من التواصل أيا كانت الطريقة. وكانت النتيجة أن أصبحت لغة الإشارة هي وسيلة الاتصال بين زاك وأسرته بالفعل.

فضلا عن أنه عندما أدركت والدة زاك منذ البداية أن السماعات لا تُجدي مع ابنها نفعا، سعت للتوصل إلى حل بنفسها. فعندما كان زاك رضيعا كانت تضعه على صدرها، وكانت تضع يديه الصغيرتين على حنجرتها آملة أنه سيربط اهتزازات ترنيمات هدهدتها الجميلة له بالصوت. وكان ذلك قبل زراعة القوقعة قبيل إتمامه عامه الأول. وكان عالم زاك بالمنزل مفعما بالتحدث والقراءة، فتعلم -وهو الذي وُلد أصم- القراءة في الصف الثالث.

تشير الكاتبة إلى الأهمية القصوى للتحدث إلى الطفل الرضيع، فلك أن تتصور يا قارئي العزيز تأثير عبارة الأم "حبيب ماما أنت" لطفلها الصغير بطريقة حنونة دافئة النبرة وصوت منغَّم على مخ الطفل، إذ تساعده على تحليل الصوت والالتزام باللغة التي سوف يستخدمها

أما والدة ميشيل، فظنت أن مهمتها قد انتهت عندما سارعت إلى إجراء عملية زراعة القوقعة لتنعم ابنتها بالسمع، فلم تعلم أن قلة التحدث معها قد أدت إلى تقزم خلايا مخها حتى صار إدراكها غير مناسب لسنها. فكلنا يولد بقدرة 100 مليار خلية عصبية لا فاعلية لها إلا إذا كان بينها ترابط، فإن لم يكن ثمة ترابط صارت كأعمدة الهواتف القائمة بذاتها بدون أسلاك توصيل، والترابط يأتي بالتحدث إلى الطفل منذ مولده. وعندما تتصل هذه الأسلاك على النحو الأمثل تنتقل إشارات بسرعة فائقة من خلية عصبية إلى أخرى، فيعمل المخ على نحو مذهل. لكن الأمر كله، مع الأسف، يتوقف على التوقيت.

وتشير الكاتبة إلى الأهمية القصوى للتحدث إلى الطفل الرضيع، فلك أن تتصور يا قارئي العزيز تأثير عبارة الأم "حبيب ماما أنت" لطفلها الصغير بطريقة حنونة دافئة النبرة وصوت منغَّم على مخ الطفل، إذ تساعده على تحليل الصوت والالتزام باللغة التي سوف يستخدمها. فرغم أن العبارة قد تبدو تعبيرا عن حب الأم، فإن التحدث إلى الطفل الرضيع يساعد مخه في فهم الأصوات التي يمكن تمييزها بوضوح عن غيرها بسهولة مما ييسر فهم هذه الأصوات واكتسابها.

ويقودنا هذا إلى التساؤل: هل من الممكن أن يتولى التلفزيون هذه المهمة؟ فنُجلس الطفل أمام التلفزيون للتعرض للغة؟ يا للأسف، الإنسان مخلوق اجتماعي؛ وإقصاء التفاعل والتواصل قد يحد من قدراته على التعلم والاحتفاظ بالمعلومات على نحو خطير. فالمخ من دون التفاعل البشري أشبه بالغربال. والطفل لا يكتسب اللغة على نحو سلبي، لكنه يكتسبها فقط في بيئة يتوافر فيها التجاوب الاجتماعي. وتثبت الكاتبة أن حديث الوالدين يعد أساسا لنمو المخ.

وأخيرا، أود أن أقول لك يا قارئي العزيز إذا أردت ابنا ذكيا فصيحا يعجب إليه من يراه، فعليك بالتحدث معه منذ اللحظة الأولى من ميلاده في شتى الموضوعات التي تشغلك، واكتساب مفردات جديدة لتحدثه بها وتثري معجمه اللغوي الذي سوف يذهلك عندما يستطيع مجاراتك في التحدث عند اكتمال جهاز الكلام لديه، فلو تعلم، يعقل أكثر منك؛ لكن لا يسعفه لسانه بعد، غير أنك ستفرح به عندما ينطق، وعندها تتيقن أن ابنك مشروعك الناجح بحق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.