شعار قسم مدونات

حبل ضد تيار الفناء

ضوء من الفضاء المصدر : ميدجيرني
الزمن يجري لمستقر له بينما يضمر في قلبه قلعة ثائرة على الرتابة متذبذبة كنبض قلب لا يهدأ حتى يهلك (ميدجيرني)

إن أعجب ما في الحياة هو الزمن، ذلك الوليد الذي لا يفتأ يكرر نفسه، كامتداد يولد من ترداد مجرد منظم باتفاق أبعاده ونتائجه. هذا الزمن يُعجز الإنسان، يقلقه، يلجمه. من وجومه، وسكونه وقدرته، ذلك المارق على صفحة سبيله في إخلاص صادق ملتزم بواجب مقدس لا يحيد على مساره قيد أنملة. هو قانون لا يعرف ارتدادا ولا نكوصا مهما تشعبت وحشدت حوله الأسباب. ماذا يفعل فُتات الخشب أمام صلابة الحديد؟ هو ماض في سبيله لا يبالي ولا يهتم بشيء في هذا الكون، كعبد أخرس لا ينطقه إلا سيده، حاملا مهمة ثقيلة وفي منتهى الدقة حمله عليها سيده، إذ لا وقت له لالتفات ولا مكان له للمشاعر.

ومع ذلك هو قلعة لا حدود لها من العواطف والعوالم والأصوات والأحاسيس والصور والألوان، إذ لكل دهر نكهته، طعمه ورائحته الخاصة، فكره، مزاجه، عقيدته، أسلوبه، ميزته وعيوبه.

هو لا يتأثر بشيء ويؤثر في كل شيء، هو يفعل في كل شيء بينما لا يفعل به شيء. جند من جنود الله يلبس بدلة بلون ترابي عسلي بينما يمضي في سبيله تمحق تحت قدميه كل الأحزان، وتلتئم جروح وتبرَأ تقرحات، يخمد لهيب أفئدة مزقها اللوع والتشظي، وتطوى صفحات أفراح كطي السجل من الكتاب فتسكن ركن ذاكرة كحقائب سفر فتحت يوما ما حتى يبست ومن ثم أرحلها الفناء إلى مدن النسيان.

هو قانون من منظور الطبيعة يقيسه العلم بالثانية والدقيقة والساعة والأسبوع والشهر والعام، وهو في عالم الإنسان يقاس عواطف وحنينا وحسرة وتاريخا، ارتفاعات وانهيارات، هو دفئ وأمن ورجفة ورهبة، وضعف وقوة.

ها نحن لم نلم ولم ننل من معانيه إلا اليسير، إذ كيف تسد بعض الكلمات سيل بحر من المعاني؟ ورغم ذلك هناك شيء وحيد في هذا العالم لم نذكره بقي صامدا أمام الزمن، أتصدق ذلك؟

الزمن يجري لمستقر له بينما يضمر في قلبه قلعة ثائرة على الرتابة، متذبذبة كنبض قلب لا يهدأ حتى يهلك، تسكن على الأمواج، لا تعرف لثبات معنى، ولكل منا حصته من هدوئها واضطرابها.

غادر هو، يسحب بساط العمر من تحت خطواتنا الزاهية، فلا نشعر بشيء، تخدير ناجح لعملية معقدة. هو دائما الفائز، لا يخسر أبدا ويظفر بكل مشروعية واستحقاق، ونحن دائما كالهباء المنثور نأتي فجأة ونفرح بمجيئنا، نتشبث به ثم نختفي من عمر الزمن كأن شيئا لم يكن كأمواج البحر مهما علت وتطاولت لا مفر من العودة خاضعة لتذوب في أصلها، وهكذا هو المد والجزر الإنساني، وتلك هي سنة الله في خلقه.

حينما تجادل الأثمان لا شيء يعلو على قدر الزمن، ورب حدث في لحظة يتيمة فالتة يقلب الزمن ويغير وجه الإنسانية، ويفعل ما لا تقدر ظروف الدهر إذا ما اجتمعت وتضافرت على تغيير ما حدث في لحظة وجيزة.

وها نحن لم نلم ولم ننل من معانيه إلا اليسير، إذ كيف تسد بعض الكلمات سيل بحر من المعاني؟ وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك شيئا وحيدا في هذا العالم لم نذكره بقي صامدا أمام الزمن، أتصدق ذلك؟ شيء لم يتأثر به ولم ينل منه، شيء أثبت جدارته في التصدي لتيار الفناء، أليَن من الماء في الوعاء، شاهق العنان كالنجم لا تسوده سائدة ولا تشوبه شائبة، قوي الوحدة كالصخر ومع ذلك تتفجر منه الأنهار، جدارا جديرا عتيدا كسور يضرب بين محاصرين بائسين وعدو، مرنا يسبح مع التيار بسلاسة وسهولة رغم تقلب أمواجه مع المحافظة على لبه وسلامة فطرته، متألقا كبدر في ليلة زاهية، عمودا شامخا رغم محاولات الرياح.. إنه الإسلام ذلك الذي ربما ننتمي إليه، وهو قطعا ينتمي إلينا.

لو خسرت كل شيء في حياتك، لا يزال لديك كل الوقت كي تغتنم أهم شيء والأعظم والأثقل وزنا على الإطلاق. عد إلى الله، تقرّب من الذات العليا، من قوة الوجود الزاكية، من عظمة القدرة الخلاقة، اصنع تاريخك في غضون لحظة.

ثم يشارفنا هوته هوة اللازمان، ضربا من المجهول، سواد على طرف الأفق المقابل، نهاية قدرية كحتمية سيره الذي لا يتوقف، يفزع الإنسان، يهدده، يكرهه بالفطرة، يقض هدوءه كلما نظر إليه أو شارف عليه. إلى هذه الدرجة نحن متعلقون بالزمن؟ أخطاؤنا تتقرح، تسري على سفوح أرضنا، زلاتنا تسقطنا في زلق الخيبة، عبثا نحاول المحافظة على التوازن.. البساط يسير بنا بلا مكابح، يأبى التوقف، هل نترجّاه أن يتمهل، ألا يفوت؟ أو حسبه أن يعيد بعضه ولكنه عبد أصم أبكم. ماذا نفعل إذا؟ إلى أين المفر؟

دعني أهمس لك شيئا لطيفا ظريفا، أنت.. ولو تبعثر كل شيء في حياتك، وعاثت بك خطاياك، وأسرفت على نفسك، لو أراك الزمن يوما نابه ولم ينثر الورود على البساط تحت قدميك، لو خانك قصدك وخذلك أملك، أنت ولو خسرت كل شيء في حياتك لا يزال لديك كل الوقت كي تغتنم أهم شيء، والأعظم والأثقل وزنا على الإطلاق.

عد إلى الله، تقرّب من الذات العليا، من قوة الوجود الزاكية، من عظمة القدرة الخلاقة، اصنع تاريخك في غضون لحظة، في غضون قطرة من بحر الزمن مثل تلك اللحظات التي تقلب الطاولة، وترجح كفة الميزان، وتغير وجه التاريخ، لحظة بعث إنسان آخر، لحظة إعلان عن ولادة، ألا تريد أن تصغر سنا؟ إن التوبة ولادة بكر لأنها هي الحياة، أما الباقي فما هو إلا محض عدم وهباء، اصنع بطلا توّاقا إلى الجوهر ساعيا إليه، يرتوي من نبع لا تنضب فيه المعاني والقيم والمبادئ تتجدد.

أحرز نجاحا باهرا يثقب قبة الزمن، يغادر الموقوت غاضبا قاطعا مثقلا بهم خلوده السرمدي، وأدرك أن ما وجدت ذات في هذا العالم إلا وكتب لها الخلود، ولكن أي خلود ترى؟ إذًا، اصنع قدرك بيدك وكن سيد أزمانك وقائد أيامك، خلود إلى جنة أزلفت أم إلى جحيم سعّرت.

﴿لا إلٰه إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون﴾ (القصص – 88).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.