شعار قسم مدونات

مواجهات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.. الاصطفاف وعِبر التاريخ القريب

قوات الشرطة تنتشر في الطرقات لتأمين الممتلكات العامة والخاصة وضبط المتفلتين من صفحة وزارة الداخلية السودانية على فيسبوك
الجيش السوداني أظهر القدرة على امتصاص الساعات الأولى، والدخول سريعا في أجواء المعركة من خلال الخبرات الطويلة التي يملكها (مواقع التواصل)

لم يتفاجأ الشعب السوداني -للوهلة الأولى- عند سماع نبأ انطلاق أول رصاصة معلنة بداية الاشتباك بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي تعد جزءا من القوات المسلحة قولًا وليس فعلًا.

فإرهاصات المواجهة كانت حاضرة من خلال عديد من المواقف والخطابات المتبادلة بين قيادات القوتين، فضلا عن الطموح الذي سيطر عليهما في الاستئثار بالحكم، لذلك كان من السهل التنبؤ بمصير الشراكة الزائفة بين ما عُرف بالمكون العسكري منذ عام 2019 بعد الإطاحة بنظام البشير.

وفي المقابل، فإن المكون المدني -الذي يعتبر الشق الثاني في شراكة الإخوة المتشاكسين- له الدور الأكبر في تنامي الصراع بينه وبين المكون العسكري، وبين أجزاء المكون العسكري (الجيش السوداني والدعم السريع) من خلال اللعب بسياسة "فرق تسد"، ودس "سم" الدمج في "عسل" جيش نظامي واحد، إضافة إلى شماعة فلول النظام داخل القوات المسلحة وما يترتب عليها من عملية الهيكلة التي كان الهدف الباطن منها تفكيك منظومة الجيش السوداني والاستعاضة عنها بقوات الدعم السريع، وهذا ما كشفت عنه أنباء الساعات الأولى من المواجهة.

والسؤال المنطقي عند التحدث عمن الذي بدأ الشرارة الأولى للاشتباكات، ولا أعني هنا البداية الفعلية لأن الطلقة الأولى كانت بغرض الانقلاب والسيطرة اعتمادًا على عنصر المفاجأة والمباغتة مع اليقين أن من بدأ بها لم يع مآلات الوضع كما هو الآن، ولكن السؤال هنا عن الإرهاصات الأولى بعد تحريك قوات الدعم السريع لعناصرها بدعوى مفادها تحرير مطار مروي من الغزاة.

فالحقيقة الجلية التي يتغاضى عنها المجتمع الخارجي -متمثلًا في بعض الدوائر ذات التحركات المريبة في المنطقة بغرض بسط السيطرة والنفوذ من بوابة بعض قوى الداخل حين تلاقت أجنداتها في التحكم بأحد طرفي الصراع ليمهد لها الطريق لحكم البلاد ولو من خلال العمالة وخيانة الشعب- تلك هي الحقيقة وذاك هو من بدأ الصراع.

 

الأقاويل قد تنامت بأن هناك اتفاقا سريا بين بعض القوى المدنية والدعم السريع مفاده اتخاذ الدعم السريع كبديل للجيش الوطني، والإطاحة بالبرهان وتسليم رئاسة المجلس العسكري لحميدتي مع ضمانات من قوى خارجية تربطها علاقات مصالح مشتركة مع الدعم السريع

طموح الرجل الثاني وخدعة البديل

قبل أيام من المواجهة العسكرية، خرجت عديد من التصريحات من بعض قوى الحرية والتغيير كلها تصب في إطار واحد، وهو أن على الرافضين للاتفاق الإطاري القبول به، وإلا فإنهم سيضطرون لاستخدام خيار ثالث، بل ذهب بعضهم إلى القول بالقبول بالإطاري أو المواجهة، والمشكلة الكبيرة التي تقف عقبة حينها لتنفيذ ذلك الاتفاق هي الاشتراطات التي وضعتها المؤسسة العسكرية في ما يتعلق بدمج قوات الدعم السريع داخل القوات المسلحة في إطار زمني محدد ومعقول، إلا أن قيادة الدعم السريع تمسكت بفترة 10 سنوات، وهي فترة -حسب عديد من المراقبين- طويلة والغرض منها سياسي وهو السماح بتمدد تلك القوات، خاصة أن الأقاويل قد تنامت بأن هناك اتفاقا سريا بين بعض القوى المدنية والدعم السريع مفاده اتخاذ الدعم السريع كبديل للجيش الوطني، والإطاحة بالبرهان وتسليم رئاسة المجلس العسكري لحميدتي مع ضمانات من قوى خارجية تربطها علاقات مصالح مشتركة مع الدعم السريع لدعم تلك المساعي حال نجاحها.

كل تلك الاعتبارات أعطت ربما الضوء الأخضر للدعم السريع لحشد مزيد من القوات والتحرك نحو مطار مروي لاستخدامه في ما بعد لتحييد الطيران وتأمين وسيلة لنقل الإمداد والدعم من حلفائه، ولا ننسى الزيارة المشبوهة لنجل حفتر إلى السودان ولقاءه حميدتي، وإن غلفت بالشأن الرياضي إلا أن المراقب الحصيف لا تنطلي عليه مثل تلك الخدع.

إن الطموح الشخصي والتنامي السريع للنفوذ لدى قائد الدعم السريع وعلاقاته الدولية المتشعبة من جهة، والحاجة إلى التعامل مع الأمر الواقع لدى القوى المدنية التي ترى أنه من المستحيل أن يكون خارج المعادلة برغم الشعار القائل "العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" من جهة أخرى، أديا لبروز تحالف حذر بينهما، اعتقدت فيه تلك القوى أنها تستطيع التحكم به وتجعله لعبة بيدها لهدف الوصول مرة أخرى للسلطة، ولو على أكتاف حل المؤسسة العسكرية، وقد صدّق الرجل ذلك، مزهوًا بقواته التي تفوق 50 ألفا داخل العاصمة، مما يعطيه التفوق علي الجيش، إضافة إلى وجود تلك القوات بكل المرافق الحيوية بالعاصمة حتى في حراسات الشخصيات العسكرية ومباني القيادة العامة للجيش.

المقاومة الشرسة من أفراد الحرس الشخصي للبرهان كانت قاصمة الظهر التي أفشلت المخطط، وبعد ذلك القدرة التي أظهرها الجيش السوداني في امتصاص الساعات الأولى، والدخول سريعا في أجواء المعركة من خلال الخبرات الطويلة التي يملكونها وتماسك منطقة القيادة والسيطرة

فشل الإستراتيجية وفقدان النصير

لعل الإستراتيجية المسبقة وحسب المبذول في الأسافير والذي تكشَّف أخيرا من أن الخطة كانت تعتمد على سرعة الحسم بالقضاء على صف قيادة الجيش الأول وإذاعة البيان، بالنظر إلى أن كل المعطيات كانت تقود لذلك حسب موقع القوات في الأماكن الحساسة وقدرتها على التحرك السريع والانقضاض والتعويل على الانهيار السريع للقوات المسلحة في حال اغتيال أو اعتقال قيادتها.

إلا أن المقاومة الشرسة من أفراد الحرس الشخصي للبرهان كانت قاصمة الظهر التي أفشلت المخطط، وبعد ذلك القدرة التي أظهرها الجيش السوداني في امتصاص الساعات الأولى، والدخول سريعا في أجواء المعركة من خلال الخبرات الطويلة التي يملكونها وتماسك منطقة القيادة والسيطرة.

كل تلك المعطيات أحرجت النصير المدني لقوات الدعم السريع وجعلته ينزوي في موقف الحياد، اضطرارا وليس اختيارا، ليبعد عن نفسه شبهة التواطؤ وجريمة المشاركة في العملية.

من كان يعول على أحد طرفي الصراع من بعض الدول، التي اشتهرت ببث الفتن والسعي للسيطرة على مقدرات السودان بدعاوى مختلفة هادفة إلى إيجاد موطئ قدم لميناء السودان والاستحواذ علي ثروات باطن الأرض، مستغلة هشاشة الوضع السوداني، عليها (تلك الدول) أن تكف أذاها عن السودان

الاصطفاف وعِبر التاريخ

الناظر للوضع السوداني بعد مرور اكثر من 3 أسابيع على بدء الصراع، يتلمس من المجتمع الدولي إعادة تدوير نفاياته نفسها التي خلفها على صعيد الصراع الليبي والسوري واليمني، ناسيًا اختلاف الأرضية والمنطلق القيمي لتلك النماذج والنموذج السوداني، فعلى صعيد الاصطفاف الداخلي نجد أن انقسام الشعب السوداني ليس للوقوف مع قيادة طرفي الصراع بل من أجل الحفاظ على قومية الجيش السوداني وما تبقى من إرث يمتد لأكثر من قرن من الزمان، يقابله الحياد غير المبرر من بعض دعاة "لا للحرب"، وهي دعوة حق يُراد بها باطل، الذين تفضحهم كثير من المواقف التي تطلب الإدانة والاستنكار والمتمثلة في اتخاذ المستشفيات والمساكن ثكنات عسكرية، إضافة لعمليات التخريب والسطو التي تقوم بها قوات "ترتدي" زي الدعم السريع.

خلاصة الواقع وبعد مرور كل تلك الأسابيع من الصراع، أن من كان يعول على أحد طرفي الصراع من بعض الدول التي اشتهرت ببث الفتن والسعي للسيطرة على مقدرات السودان بدعاوى مختلفة هادفة إلى إيجاد موطئ قدم لميناء السودان والاستحواذ علي ثروات باطن الأرض، ضاربة القيم والمبادئ التي تحكم علاقات البلدين عرض الحائط ومستغلة هشاشة الوضع السوداني، عليها (تلك الدول) أن تكف أذاها عن السودان فالشعب السوداني -الذي قدم كثيرا من الدروس والعِبر عبر التاريخ للأمم- قادر على أن يحلحل جميع مشاكله بعيدًا عن التدخلات المشبوهة ذات الأجندات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.