شعار قسم مدونات

عن مقدمة التفسير التوحيدي للشيخ حسن الترابي

برومو شاهد على العصر-الدكتور حسن الترابي
الدكتور حسن الترابي (الجزيرة)

اتخذ الشيخ حسن الترابي في تفسيره منهجية سماها "المنهجية التوحيدية"، ويعني بها عدة معان من ضمنها توحيد الحياة لله، فهو يرى أن جوهر الإسلام وجوهر القرآن أن تطوف الحياة كلها حول الله تعالى، فتكون الحياة الإنسانية وجهتها الله تعالى، وعلى هذا يريد الله تربية الناس عبر الصلوات والزكوات والحج الذي يطوف فيه الناس حول بيت الله، كأنهم يطوفون ويجعلون حياتهم كلها تدور حول وجهة واحدة هي رضا الله تعالى وتحقيق عبادته وتنزيل هداياته في واقع الحياة.

ثم إن المعنى الآخر الذي أراده الشيخ بإطلاق اسم "التوحيدي" على جهده في النظر لكتاب الله، هو معنى توحيد السياق القرآني نفسه على نسق متجانس، لا ينفصل فيه الأول عن الآخر ولا البداية عن النهاية، فجميع السور بما تحمله من المعاني تتجه نحو سياق واحد وتنادي بمبادئ واحدة، وتسوق الأحكام والشرائع والشعائر وآيات النظر في الكون وآيات التسخير وآيات اليوم الآخر من هول العذاب أو بشارات النعيم، كل ذلك يتوحد ويتسق ليتجه لغاية واحدة هي توجه القلب البشري إلى الله تعالى.

يقول الشيخ الترابي بضرورة تجويد حرف القرآن والتوحيد لأصواته بنسقها ومعانيها، فإن له وقعا ونظما ونغما خاصا في أسلوبه على الأصل العربي

لغة القرآن

وأما في لغة القرآن فإنه كتاب عربي مبين تنزّل بلسان العرب، وافتتحت بعض سوره بـ "الم" و"كهيعص" و"حم" و"عسق" للدلالة على أنه بهذه اللغة المباركة لفظا ومعنى، وليكون توثيقا بأنه من عند الله، جعله الله بلسان العرب ولغتهم ثم تحداهم أن يأتوا بمثله أو بآية من مثله وأحيانا بسورة من مثله. وكذلك تأكيدا على أنه بينات يعرفها العرب أمة الخطاب الأولى.

يقول الشيخ الترابي عن لغة القرآن -في مقدمته- فيقول بضرورة تجويد حرف القرآن والتوحيد لأصواته بنسقها ومعانيها، فإن له وقعا ونظما ونغما خاصا في أسلوبه على الأصل العربي. وكذلك كانت أمة الخطاب تتلقى القرآن فتتفهمه ويقع في نفسها موقعا بليغا.

وقد كان المؤمنون يسمعونه منصتين يخشعون لمعناه وتقشعر له جلودهم وتفيض أعينهم من الدمع يتلونه قولا، ففقهًا، فيرتبون على ذلك تلاوته فعلًا: ﴿الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد﴾ [الزمر: ٢٣].

أما الكافرون فكانوا يبعدون آذانهم عنه صدودا وخشية أن تنصدع له النفوس وأحيانا يردونه إلى الشعر لنغمه ووقعه ﴿فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا﴾ [مريم: ٩٧].

تتبين وحدة الهدي الإنساني في القرآن في ذكره لملكوت الله الأعلى ومخلوقات العالم موصولا بأمر الإنسان، والملائكة التي تكرم الإنسان وتوحي إليه الهدى وتؤيده في مسعاه الصالح وتزفه إلى الجنة أو تسوقه إلى النار ظالما

وحدة الهدي للإنسان

وكذلك من معاني التوحيد التي أراد الشيخ أن يعكسها في تبيان تفسيره وما يحمله من تسليط الضوء والنظر في القرآن، حديثه عن الهدايات المبسوطة في خطاب القرآن والموجهة للمعرفة الإنسانية، مثل هدايات الإنسان لعالم الغيب ليرسخ يقينه بها في حياته في عالم الدنيا المشهود وليسعى إلى عين اليقين في الأزل والحياة الأخرى. فالقرآن يذكّر كثيرا بمركوز الفطرة الإنسانية بخيار عقد الإيمان بالله الواحد وميثاق عبادة له وراء الغيب.

وكذلك تتبين وحدة الهدي الإنساني في القرآن في ذكره لملكوت الله الأعلى ومخلوقات العالم موصولا بأمر الإنسان، والملائكة التي تكرم الإنسان وتوحي إليه الهدى وتؤيده في مسعاه الصالح وتزفه إلى الجنة أو تسوقه إلى النار ظالما، والشيطان وذريته الذي يحقر الإنسان ويسعى إلى إضلاله ليلزم موالاته في النار، والجن منهم القاسطون ومنهم الصالحون يسمعون القرآن مع المؤمنين.

كذلك يوحد القرآن هدي الإنسان في واقع الدنيا ويدعوه لإصلاح سيرته فيها على أساس الإيمان بالغيب الحق، يذكره بأصول الإيمان الفطرية وبخواطر التفكر في مشاهد الكون المخلوق والتدبر في بلاءات الحياة وآيات الهدى الموحاة.

ويوصي القرآن الفرد بأن يتزكى ويجتهد ويكسب ويحمل عاقبة الحساب فردا، ولكن يوحده إلى الجماعة لا يعتزلها معتكفا من دون خيرها أو شاحا عن سهم معها في عوام، بل يصلها مسترشدا مستعينا متدافعا مضابطا بها.

يرى الدكتور الترابي ضرورة العود بالتفسير للقرآن ليكون خطابا موحدا لكل الناس أيضا، لأن توثق أوصال العالم وتكاتف سبل اتصاله يقتضي ذلك. فإن تراكم عهود التجربة البشرية التي لم يكن يعرفها السلف أيام التنزيل الأولى تحتم ضرورة رؤية القرآن موحدا يشمل سائر الناس

حاضر الوحدة مع القرآن

وقد ختم الشيخ الترابي مقدمه كتابه "التفسير التوحيدي" بتبيان حاضر المسلمين مع القرآن، فهو يرى أن جمهور المسلمين في عزلة من القرآن بوصفه ذكرا متدبرا مصدقا بالحياة، وأن غالبهم قارب القرآن ليحفظه محجوبا في غلافه ليبارك له المكان من الشيطان وليمسه أحيانا تبركا وينظر إليه قربانا لله.

ويرى الشيخ أن المسلمين قد تباعدوا عن إدراك معانيه، وبعدت الشقة بينهم وبين النظر تدبرا في موعظته الهادية لرشد الحياة العامة، فحتى المهتمون بالقرآن قد قصر اهتمامهم على الحفظ أو ترديد الحرف لكسب الثواب، لا لتنزيل المعاني واقعا يغير حياة الناس في شعابها المتعددة.

ويرى الدكتور الترابي ضرورة العود بالتفسير للقرآن ليكون خطابا موحدا لكل الناس أيضا، لأن توثق أوصال العالم وتكاتف سبل اتصاله يقتضي ذلك. فإن تراكم عهود التجربة البشرية التي لم يكن يعرفها السلف أيام التنزيل الأولى تحتم ضرورة رؤية القرآن موحدا يشمل سائر الناس.

ثم إن بشائر النهضة المعاصرة للوعي بالإسلام تبدي تذكرا وتوبة بعد غواشي التخلف والنسيان التقليدية، واستقلالا بعد حجب الغزو الثقافي والسياسي الغريب وصحوة بسبب صدمات أخذت تلازم المسلمين ظلما وحربا عليهم في كثير من ديارهم، وموعظة من سوء فساد مجتمع وتعالي سلطان ومهاجرة للدين. وقد شغل كل ذلك بعض المفسرين المعاصرين فاجتهدوا يوافون الحاجة مرجعا إلى أصول الدين الحق.

ومن المفسرين المعاصرين من رأى في المسلمين ارتدادا إلى الجاهلية ومن ركز عِلم التفسير على أزمة "الحاكمية لله أم للطاغوت"، وكثير أصبح يعالج بتفسيره قضايا الحياة المعاصرة لا يجمد عند نقل التراث محررا من دون خطاب القرآن الخالد، وآخرون ضلوا بثقافتهم وحاجاتهم الجديدة مبشرين بالوضعية الدهرية العقلانية الغربية يخوضون بها في تفسير القران يلوون معانيه ويتأولونه أو يطعنونه صراحا في حقه المطلق الخالد.

وهذا اجتهاد "تفسير توحيدي" في كلام قليل، مخاطبة لكل قارئ -مسلما أو غير مسلم- لينظر في القرآن بوسع وعيه ومعروف بيئته، لعله يكسب جديدا زهيدا من هدي القرآن، وليسعى مزدلفا إلى كمال فقه حقه المطلق باسطا ما تنبعث لديه من رؤى وما يستثار من اجتهاد في كل حين أو كيف أو أمد من حياته، ثم ليفيض هو بتفسير للقرآن ينشره للناس ترقيا مداوما إلى الأنسب والأوفق والأتم في سيرة التفسير والحياة القرآنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.