شعار قسم مدونات

نحن والعلمانية الوجودية.. كيف وصلنا إلى هنا؟!

blogs- العلمانية
إعلان تاريخ جديد يرفع عنوان "العولمة" كأحد أعلى مراحل الرأسمالية (مواقع التواصل الاجتماعي)

حينما نأتي على ذكر مصطلح العلمانية في المجتمعات العربية، غالبا ما تأتي ردود الفعل مستهجِنة ومعبرة عن نفور عام من تمثلات الكلمة، وخاصة من أحد تلك التمثلات الأبرز، ألا وهو إقصاء الدين من الحياة العامة، وما يشكله هذا التوجه من هاجس مخيف لدى شعوب يمثل الدين بالنسبة إليها مرجعية كبرى، يصبح معها الإسلام دينا ودولة وحياة، في تجسيد لسردية دينية يتمحور حولها معنى الكون والإنسان بما يستحضر الله كخالق لهذا الكون، قادر على التحكم بكل ما فيه، عليم بأحوال البشر وقادر على رعايتهم وعلى التحكم في أقدراهم، إن التاريخ يسير وفق هذه الرؤية بشكل غائي عبر توجيه إلهي يقضي بأن الفناء ثم البعث في عالم آخر هو المآل والمصير المحتوم للجنس البشري. وإلى حدود اللحظة تبدو هذه الرؤية الوجودية طبيعية ومتوافقة مع ما هو عليه الأمر في البيئة العربية، لكن دعونا نتوقف قليلا هنا في محاولة لمساءلتها وفحص مدى تطابقها أو انعكاسها على واقعنا في عصرنا الحديث.

مجتمعاتنا وإن ظلت تبدي سواء على مستوى الخطاب الرسمي أو الشعبي تمسكا شديدا بخصوصيتها الثقافية معبرة عن عدم استعدادها للتفريط في أمنها الروحي والقِيَمي، إلا أن واقع الحال يؤشر على انفصام حاد بين الخطابات من جهة، وبين السلوكيات والممارسات من جهة أخرى

ليس خافيا على أي منا ما صار يشكله المجتمع الاستهلاكي من سيطرة شبه مطلقة على حياتنا اليوم، كإحدى تبعات انصهار البشرية جمعاء في سياق عالم منفتح ومتداخل يعيش في كنف الليبرالية الغربية، هذه الأخيرة التي انتهت مستندة على زوال الشيوعية بداية من نهاية الثمانينيات، إلى صياغة نظام جديد للعالم، وإعلان تاريخ جديد يرفع عنوان "العولمة" كأحد أعلى مراحل الرأسمالية، حيث الكلمة لاقتصاد السوق وللروح التجارية، حتى صارت كل المواقف تقاس بذهنية الربح ومقاييس التفوق، مما فتح الطريق نحو توجه الإنسان إلى التمركز حول ذاته ومن ثم تدشين عصر الإنسان الأعلى سيد الكون، مالك مصيره، المفتون بوعود الأرض المستقلة عن غايات السماء، حيث العالم الطبيعي أو المادي هو الحقيقة الوحيدة، إنه عصر يفسر فيه الوجود من زاوية العلية الدنيوية، حيث تصبح بالتالي المعرفة العلمية، غير الميتافيزيقية كافية لفهم عالم يعمل بذاته بصورة مطلقة.

وبطبيعة الحال فإن المعني والمخاطب بهذا النظام الجديد كان العالم بأسره بما فيه عالمنا العربي، الذي استسلم في بداية الأمر -أيا كانت الوسائل- لتوجهات النموذج الغربي في شقه الاقتصادي، وما يقدمه من وعود تنموية مغرية، فكان الانقياد والتبعية بشكل تام، والسؤال هنا هو هل أمكننا الانخراط في هذه الدينامية الجديدة في شقها الاقتصادي فقط مع الحفاظ على خصوصياتنا الثقافية، بما فيها رؤيتنا للوجود التي يحضر فيها المكون الديني بشكل مركزي، أم أننا قد خضعنا بغير وعي أو اختيار منا لتيار علمنة وجودية، هي بمثابة القلب من الجسد في النظام الليبرالي الذي يحكم العالم؟

والحقيقة أن مجتمعاتنا وإن ظلت تبدي سواء على مستوى الخطاب الرسمي أو الشعبي تمسكا شديدا بخصوصيتها الثقافية معبرة عن عدم استعدادها للتفريط في أمنها الروحي والقِيَمي، إلا أن واقع الحال يؤشر على انفصام حاد بين الخطابات من جهة، وبين السلوكيات والممارسات من جهة أخرى، فالدين وإن كان يشكل الحجر الأساس في نظرتنا للوجود وللتاريخ بما يجعلنا نوقن بحضور المشيئة الإلهية كقدرة علوية توجه وتحرك حياتنا نحو غايات محددة، مما يضفي على حياتنا معنى لا تستقيم بدونه، إلا أن هنالك مستوى ثانٍ من الخبرة الدينية، حين يتعرض الدين لعملية مأسسة ويتحول إلى معرفة و ممارسة تنحو به نحو الخلط بين جوهره الثابت من جهة وبين الموروثات القديمة من جهة ثانية، ثم بين التوظيفات الأيديولوجية المعاصرة من جهة ثالثة، بما يجعله خاضعا لكل أشكال السيطرة والتحكم فيصير أداة تدجين في يد القوى الحاكمة (محليا وعالميا).

لقد فقد الإنسان العربي على غرار الإنسان الغربي في عصرنا الحديث تدريجيا قدرته على التسامي، فأضحى يندرج في أطر وظيفية، فبرغم إشباعه لاحتياجاته المادية إلا أن الشعور بالتعاسة والتوتر لم يفتأ يزداد ويتعمق تحت وطأة الإيقاع اللاهث للواقع اليومي

ولعل هذا المستوى الثاني قد أحكم سطوته على واقعنا اليوم بما أدخلنا في أزمة معنى لم يعد يلعب فيها الدين دوره بما يكفي في تلبية حاجتنا للطمأنينة، حيث غاب الإيمان الروحي العميق، القادر على تنمية العوالم الداخلية للإنسان من خلال ربطه بعالم الغيب، على نحو يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه؛ إذ يبثه ضميرا خلقيا مريدا للخير هيّابا للشر، مدفوعا إلى الحق رافضا للظلم. وهذا الإيمان الروحي لا يكاد يوجد اليوم، في ظل سيادة علمنة وجودية تفصل الإنسان عن المقدس، وتتعامل معه باعتباره كيانا ماديا بحتا، مجرد شيء مسطح بلا أعماق جوانية أو أخلاق سامية.

لقد فقد الإنسان العربي على غرار الإنسان الغربي في عصرنا الحديث تدريجيا قدرته على التسامي، فأضحى يندرج في أطر وظيفية، فبرغم إشباعه لاحتياجاته المادية، الضرورية والكمالية، إلى درجة لم تتحقق قطعا في أي حقبة تاريخية سابقة، إلا أن الشعور بالتعاسة والتوتر لم يفتأ يزداد ويتعمق تحت وطأة الإيقاع اللاهث للواقع اليومي، الذي تحول معه البشر إلى مجموعة تفاصيل متناثرة لا قصد لها.

إنها الفردانية الحديثة التي اختصرت جوهر النزوع الإنساني إلى السيطرة على المصير الفردي، فأفصحت الحصيلة عن فخ بقدر ما كان مغويا بقدر ما كان محبطا، وفيما يبدو فإن عالمنا العربي لم يقوى بما يكفي على مقاومة تيار هذه العلمنة الوجودية، فبرغم كل مظاهر التدين التي تملأ حياة الإنسان العربي، إلا أن النزعة الدنيوية المهيمنة قد نالت من القوة الباطنية لهذا الإنسان العربي، بما أفضى إلى فك الارتباط بينه وبين المقدس، لا عن طريق نفيه، وإنما عبر فقدان القدرة على الشعور بنشوة ذلك المقدس إما لامبالاة أو إهمالا أو نسيانا.

تتكشف الحاجة مجددا إلى الحضور الإلهي في العالم عموما، وفي عالمنا العربي بشكل خاص، من خلال مفهوم العناية الربانية القادر على تمتين ملكة الاستغناء لدى المؤمن بربه عما سواه

داخل عالم يتسارع إيقاعه وتنمو ماديته، بما حوَّلنا إلى روبوتات مبرمجة بشكل لا يحمل اهتماما بالمشكلات الأخلاقية التي تعنى بالخير والشر، مما يتكشف عنه كائنات وظيفية ذات نزعة مادية صرفة تتصور الإنسان فقط كمنتوج لمجموع قدراته على الكسب المادي والتسلط الاجتماعي.

والخلاصة الكبرى أن تتكشف الحاجة مجددا إلى الحضور الإلهي في العالم عموما، وفي عالمنا العربي بشكل خاص، من خلال مفهوم العناية الربانية القادر على تمتين ملكة الاستغناء لدى المؤمن بربه عما سواه، كرافعة لمستوى أعلى من "الحرية الوجودية" في مواجهة عوامل القلق الميتافزيقي الذي شاع الاعتقاد بتجاوزه من قِبل العلم الحديث وفلسفته الوضعية، ثم كذلك في مواجهة حالة الاغتراب الذاتي التي أحدثها التقدم التكنولوجي الهائل الذي أوهم الإنسان بحاجته إلى تجاوز البعد الماورائي للوجود، إنها إذن حرية وجودية، تتبدى كمطلب إنساني ملح في عصرنا الحديث، على طريق خلق إدراك باطني لخيرية الحياة واستثنائية الشر، كمنشط للإرادة ضد أحاسيس الألم وهواجس العدم، بحثا عن السلوى من ضغوط العصر وإخفاقاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.