شعار قسم مدونات

الديمقراطية وكيل مساعد المحددات الاجتماعية الصحية

تفوقت الصين على روسيا في بعض المؤشرات التنموية الصحية رغم تقدم روسيا على الصين في مؤشرات الديمقراطية (غيتي إيميجز)

هناك نظرة مثالية تعتبر الأنظمة الديمقراطية الكاملة أكثر قوة وتفوقا على غيرها من أنظمة الحكم شبه الديمقراطية والشمولية في تحقيق الأهداف والمرامي التنموية. في الحقيقة إن الأدبيات والدراسات تشير إلى نتائج متنوعة ومختلفة بين من يدعم ومن يعارض فكرة أن الديمقراطية هي عامل مؤثر ورئيسي في توفير منظومة صحية منيعة وقوية للأفراد والمجتمعات. كما تشير أيضا دراسات عديدة إلى أن صحة السكان الذين يسكنون البلدات ذات الأنظمة الديمقراطية تكون صحتهم أفضل من الدول غير الديمقراطية. وبالأحكام الاستنباطية نرى ذلك أكثر منطقيا وأقرب للقبول عقلانيا، ولكن استقرائيا نجد نتائج مختلفة عما تؤسس له الرأسمالية في عالمنا اليوم.

وهنا أرجو ألّا يؤخذ كلامي تنظيرا للأنظمة الشمولية بقدر ما هو فرصة لإطلاق أسئلة نقدية حول الطبيعة الوجودية لدور أنظمة الحكم على الصحة بشكل مباشر وعضوي. ومن هنا عقدتُ مقارنة سريعة للبيانات التي تشير إلى تفوق بعض الدول الشمولية وغير الديمقراطية في ترتيب المؤشرات الصحية على الدول الديمقراطية. وهذا ما يجعلنا نستعرض تلك العلاقة من عدة أبعاد مثل الاقتصاد السياسي والتنمية الاجتماعية وحقوق الإنسان وازدياد حركة التحضر والتحول النشط إلى مراكز المدن ومظاهر الحداثة الحياتية.

الديمقراطية هي "وكيل مساعد" (proxy factor) وليست عاملا مباشرا لتحقيق التنمية الصحية. والديمقراطية لا تعمل بمفردها بدون حوكمة قوية متماسكة وإرادة سياسية نافذة.

وللإجابة عن سؤال هل الديمقراطية عامل وسيط أم وكيل مساعد للوصول إلى حصيلة صحية عالية وتغطية صحية شاملة؟؛ لا بد من استعراض تعريف المحددات الاجتماعية للصحة وفق ما عرفته منظمة الصحة العالمية وهو الظروف التي يولد فيها الناس وينمون ويعملون ويعيشون ويهرمون، ومجموعة أوسع من القوى والأنظمة التي تشكل ظروف الحياة اليومية، وتشمل هذه القوى والأنظمة السياسات والنظم الاقتصادية، وأجندات التنمية، والأعراف الاجتماعية والسياسات والنظم السياسية. والتي تشمل العمل والدخل والمسكن الآمن والوصول للخدمات الصحية والتعليم والتدريب ووفرة وسائل النقل وشبكة المواصلات وأنظمة الحكم السياسية وغيرها من الأمثلة. وهذه المحددات مقسمة إلى 4 مستويات (كبرى وصغرى وبينية وجزئية)، حيث إن تكاملها في بيئة متناغمة كنظام بيئي "متسق" (ecosystem) تؤدي إلى نتائج صحية أفضل وذات موثوقية ومأمونية عالية.

إن الديمقراطية رغم أنها وجهة كل الأحرار في العالم إلا أنها تحمل في طياتها أسباب انعدام العدالة ويمكننا ملاحظة ذلك جليا في الدول ذات الانتقال النشط إلى النمط الحضري.

ولمحاولة الوقوف على تأثير الديمقراطية كإحدى هذه القوى والسياسات المذكورة في التعريف السابق يمكننا مقارنة تصنيف الدول وفق مجموعة من المؤشرات المختارة من مصادر رسمية. مع ضرورة التنويه إلى أن هذه المؤشرات المركبة لوحدها غير كافية إلا أنها تعطي انطباعا مهما وتفتح أسئلة نقدية لافتة حول ضرورة النظر بعمق لتأثير شكل الأنظمة السياسية على المؤشرات الصحية، مع أنني لا أرى منهجيا أن هذه المؤشرات كافية للوصول إلى إجابة السؤال المعروض في بداية المقال إلا أنها محاولة قد تتطور إلى مبادرة علمية رصينة في المستقبل القريب. أما عن المؤشرات المختارة فقد كانت كالآتي: [1] "مؤشر التنمية البشرية" (Human Development Index) [2] و"مؤشر التقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة" (SDGs) [3] و"مؤشر التغطية الصحية الشاملة" (Universal Health Coverage Index) [4] و"تصنيف الدول وفق مستوى السعادة" (Happiness report) والتي تم مقارنتها [5] بمؤشر الديمقراطية الصادر عن معهد "في-ديم" (V-Dem).

وفي النتيجة النهائية عندما رُبطت تلك المؤشرات مع مقياس الديمقراطية المذكور آنفا ظهر أن التنمية والتقدم الصحي كان ظاهرا وجليا في الدول الشمولية مثل الصين وروسيا وحتى في الملكيات أيضا، وكانت بعض الدول الديمقراطية أقل في التصنيف الصحي من الدول الشمولية. وظهر ذلك أيضا حتى بين الدول الديمقراطية ذاتها حيث تفوقت كندا على النرويج في المقاييس الصحية رغم أن النرويج أعلى من كندا في مؤشر الديمقراطية. كما تفوقت الصين على روسيا في بعض المؤشرات التنموية الصحية رغم تقدم روسيا على الصين في مؤشرات الديمقراطية.

إن الديمقراطية رغم أنها وجهة كل الأحرار في العالم إلا أنها تحمل في طياتها أسباب انعدام العدالة ويمكننا ملاحظة ذلك جليا في الدول ذات الانتقال النشط إلى النمط الحضري أكثر؛ حيث إن التحضر (الانتقال من الريف إلى المدينة) يجعل الخدمات تتركز في مراكز المدن مما يجعلها محط أفئدة الناخبين واستعراض البرامج السياسية البرّاقة في الانتخابات، وهذا بحد ذاته يؤثر سلبيا على عدالة التغطية والوصول للخدمات الصحية، حيث إن الخدمات تتركز تلقائيا في مراكز المدن لأغراض انتخابية تتسق مع الفكرة الديمقراطية، وذلك بعكس التنمية في الأنظمة الشمولية والملكيات التي تهتم بشكل أفقي بكل الجغرافيا السياسية للدولة لأنها ببساطة ليست بحاجة إلى أصوات الناس. ومن هنا أكرر ما نبهت عليه ابتداءً في مقالي في أنني لا أدعم أيديولوجيات الأنظمة الشمولية والدول غير الديمقراطية بقدر ما ألفت الانتباه إلى التالي:

لا نستطيع الاعتماد على الديمقراطية كمحدد فردي من المحددات الاجتماعية والسياسية، بل يجب النظر إلى مستوى الدخل والمحددات الاقتصادية وحالة التحضر والحوكمة والعوامل الجيوسياسية والاقتصاد السياسي التي تلقي بظلالها على العملية التنموية الصحية

إن الديمقراطية هي "وكيل مساعد" وليست عاملا مباشرا لتحقيق التنمية الصحية، والديمقراطية لا تعمل بمفردها بدون حوكمة قوية متماسكة وإرادة سياسية نافذة. وإن الدول الديمقراطية في الاقتصادات الضعيفة والهشة تعزز عدم العدالة في التغطية الصحية ويجب الانتباه فيها أكثر إلى حجم الاستثمار في "الخدمات العامة" (public services) والتي عادة ما تكون أضعف برغم وجود النظم الديمقراطية. والأنظمة الصحية تتطور وتنمو وتزداد قوة في حال التعامل معها كحال تنموية اجتماعية سياسية أكثر منها قضية طبية عاجلة.

وتزداد فرص التنمية والتحسين في المنظومات الصحية في الدول الديمقراطية في حال توفر المال، والحوكمة القوية تعتبر وفرة البيانات وجودتها لقياس تأثير الديمقراطية على التنمية الصحية من أهم وأكثر التحديات تعقيدا في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء، حيث إن الأولى تعاني من تعقيدات الخصوصية والسرية وحوكمة البيانات والثانية تعاني من ضعف المراصد والسجلات الإلكترونية التي ترصد البيانات الصحية الفردية.

وقبل الختام لا نستطيع الاعتماد على الديمقراطية كمحدد فردي من المحددات الاجتماعية والسياسية، بل يجب النظر إلى مستوى الدخل والمحددات الاقتصادية وحالة التحضر والحوكمة والعوامل الجيوسياسية والاقتصاد السياسي التي تلقي بظلالها على العملية التنموية الصحية.

وأخيرا يبقى السؤال المفتوح حول حاجتنا إلى بحوث أكثر عمقا حول طبيعة العلاقة بين الديمقراطية والتنمية الصحية والتي قد تساعدنا على فهم شكل النظم الصحية وفق "النظام السياسي" (political regime).

 

هوامش

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.