شعار قسم مدونات

حكاية مسجد وشيخ وطفل

الشيخ عبد الرحمن قحطان (مواقع التواصل الاجتماعي)

خطفت قلبي تلك الصور؛ كنت أقلبها هذا الصباح بشغف وشعرت كأنني أعيشها لتوي، وكأني اللحظة في ذلك المكان، منبر المسجد، حلقة العصر في رمضان، والسجاد الأخضر المخطط باللون اللبني، والحلقة الدائرية، ورجل هنالك في نهاية الخمسينيات أو يكاد، ينصت إليه الناس في هذه الحلقة الإيمانية في واحد من نهارات رمضانات البهية في سنين طفولتي الأولى.

لكأن الصورة كانت هدية لروحي، فقد أحيت تلافيف الذاكرة وجردتها من عفن الأيام الممل.

جامع الغفران كان في وسط مدينة تعز وبالقرب من باب الكبير مهوى أفئدة كثيرين وكان عند التراويح يعج بالمصلين.

كنت طفلًا يتقافز بين أماكن الوضوء في جامع الغفران العتيق في شارع 26 سبتمبر قبل ترميمه وتجديده، أعبر مساحة الوضوء من بركة كنت أتجاوزها بحذر رغم صغر سني ولا أجد تفسيرًا لذلك سوى أنني لم أكن أحب أن أمرر أقدامي منها كما يفعل الناس جميعًا، ثم أدخل إلى المسجد والصفوف الأولى لأصلي العصر برفقة شيخ هذا المكان الذي كان بمقام والدي أو لأقل "أبي الروحي"، كنت أناديه الشيخ فقط وكان الآخرون ينادونه الشيخ عبد الرحمن. هو شيخ بكل ما تحمله الكلمة من معنى، شيخ في التجربة وشيخ في المكانة وشيخ في العلم وشيخ في الحزم، وكان لا يحب من كل ذلك سوى أنه أستاذ وعالم وفقيه، أما في نظري الآن فهو شيخ طريقة، طريقة تعلم وتدرس، فهو السهل الممتنع إنسانا والسهل الممتنع فقيها والسهل الممتنع رجل مجتمع والسهل الممتنع أبا.

كان جامع الغفران في وسط مدينة تعز وبالقرب من باب الكبير مهوى أفئدة كثيرين وكان عند التراويح يعج بالمصلين، 23 ركعة يحبها الناس لأنهم سيلتقون الشيخ عبد الرحمن قحطان ولأن المسجد يمثل لهم الكثير، فهنا وجد كثيرون أنفسهم تعلموا الفقه والقرآن والنحو على مدى 10 سنوات إذ كان إمام هذا الجامع مثالًا في الالتزام بالدروس والتدريس وكنت طفلًا لا أعلم سر جاذبية هذا المكان وهذا الشخص، لكنني فيما بعد عرفت السبب.

كبر الطفل، أصبح أبًا، وغادر الشيخ هذه الحياة وما زالت في الذاكرة مئات الذكريات.

الآن استعادتني صور إحياء الذكرى الأولى لرحيله فترقرق القلب قبل العين بدمع ساخن، وأنا لست كالآخرين أحتاج لسيل من الذكريات ليقربني من تلك السنين الخوالي عن طفل يركض بين المنبر والمصلى، عن موعظة ما بعد الصلاة التي كنت أرتعش عندما ألقيها للحاضرين قبل أن يقوى عودي، وعن ذلك الشعور الروحاني الذي يتلبسني كل رمضان حتى الآن، كحالة من حالات الرضا والإيمان بعد أن أؤدي صلاة العصر فأخرج مع الشيخ المحفوف بحب الناس راجلًا على الأقدام يوزع ابتساماته وأسئلته على الناس وعطاياه على المحتاجين ويخاطب الباعة وهو يشتري احتياجاته منهم بكل حب وينثر عبيرا من مغادرته المسجد في شارع 26 سبتمبر مارًّا بالسوق المركزي وشارع التحرير حتى الوصول إلى المنزل.

كبر الطفل، أصبح أبًا، وغادر الشيخ هذه الحياة وما زالت في الذاكرة مئات الذكريات، والطفل معلق بين الأمل والحب، أمل أن يعود إلى دياره الأولى مراتع صباه وتألقه وجموحه وبداياته والحنين إلى الذكرى التي لم تبرح خياله.

ما زلت أمرّ بذاكرتي من تلك الأماكن برفقة شيخي الذي كان يعوّل علي كثيرا، يسأله الناس على مدى سنوات طويلة: هل هذا ابنك؟ فيومئ بنعم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.