شعار قسم مدونات

أسباب الكشوف الجغرافية.. عوامل معرفية أم دوافع استعمارية؟

انطلقت هذه الحملات البحرية الجريئة على يد هنري الملاح (1394-1460) ابن الملك يوحنا ملك البرتغال، الذي استولى البلاد من المسلمين، والممتلئ حقدا على الإسلام وأهله (غيتي إيميجز)

من الادعاءات المضللة التي اعتدنا أن نقرأها في كتب التاريخ وفي المقررات المدرسية والجامعية في بلداننا الإسلامية أن حملات البرتغاليين والإسبان في البحار والمحيطات الجنوبية والشرقية في القرنين الـ15 والـ16، ثم حملات الهولنديين والإنجليز والفرنسيين بعد ذلك، كانت رحلات استكشافية لمناطق جديدة ولأغراض معرفية وتجارية، وأن اكتشاف قارات العالم الجديد وطريق رأس الرجاء الصالح الذي يلتف حول جنوب أفريقيا، وتقدم علم الفلك والرياضيات والأسلحة والأساطيل، وغيرها من الاكتشافات الجغرافية والمادية في تلك الحقبة والتي غيرت مجرى التاريخ جاءت في هذا السياق.

هذه الحملات كانت في النصف الأول من القرن الـ15 بعد احتلال البرتغاليين لثغر سبتة المغربي تحديدا عام 1413، وهي الحقبة التي بلغ فيها الصراع بين المسلمين والإسبان ذروته بالأندلس.

الدوافع الأكثر إثارة للوجدان

والحقيقة هي أن العوامل المعرفية والاستكشافية والتجارية لتلك الحملات البحرية الأوروبية تتضاءل أمام الدوافع الدينية والاستعمارية. فالدوافع الدينية والاستعمارية كانت هي الدوافع الأكثر إثارة للوجدان والانفعال، وهي التي تكشف عن العواطف الأكثر جرأة والأكثر تضحية حتى بالحياة نفسها، والتي صاحبت تلك الحملات البحرية نحو الشرق. يتضح ذلك إذا أدركنا أن بداية هذه الحملات كانت في النصف الأول من القرن الـ15، بعد احتلال البرتغاليين لثغر سبتة المغربي تحديدا عام 1413، وهي المرحلة التي وصل فيها الصراع بين المسلمين والإسبان إلى ذروته بالأندلس، بالتزامن مع تصاعد قوة العثمانيين في الأناضول ومحاصرتهم للقسطنطينية عاصمة المسيحية الشمالية، وتوغلهم في شرقي أوروبا "ببأس شديد وقوة لا تردع".

ومن المعلوم أن خطة تلك الحملات قد وضعت على إثر التحالف بين البابا نقولا الخامس (1447-1455) وملك البرتغال أفونسو الخامس (1477-1481)، ومن خلال مرسوم منحه البابا له مؤداه قيام أوروبا الكاثوليكية بإعداد حملة صليبية ضخمة وتوجيهها نحو الشرق لتصفية الحساب مع الإسلام والقضاء عليه نهائيا، بعد تطويقه من الجنوب بحيث لا يبقى على الأرض سوى دين واحد هو الدين المسيحي وحضارة واحدة هي الحضارة الأوروبية. وكان ذلك هو الحلم الأسمى البعيد الذي راود خواطر البابا والملوك والأمراء والبحارة الأوروبيين في تلك المرحلة بكثير من الإغراء، وهو الذي قوى في نفوسهم روح المغامرة، وحفزهم على ركوب أمواج المحيط الأطلسي المتلاطمة والعاتية والتدافع المحموم بلا كلل ولا ملل للوصول إلى المياه الجنوبية والشرقية.

انطلقت هذه الحملات البحرية الجريئة على يد هنري الملاح (1394-1460) ابن الملك يوحنا ملك البرتغال، الذي حرّر البلاد من المسلمين، والممتلئ حقدا على الإسلام وأهله، والذي كان يتلبسه هاجس وضع خطة إستراتيجية للالتفاف حول أفريقيا.

حلم العودة إلى القدس

واستند هذا التدافع المحموم إلى انتشار مشاعر صارمة ونزعة صليبية عدوانية، نتيجة لحروب الاسترداد البرتغالية والإسبانية ضد المسلمين بالأندلس لاقتلاعهم منها، ونتيجة أيضا لسقوط القسطنطينية عام 1453 بيد السلطان محمد الفاتح (1451-1481)، وما نتج عنه من ذعر وخوف في أوروبا. وأصبح تحرير بيت المقدس وإحياء المملكة اللاتينية فيها من جديد وتحويل الحرب إلى ديار المسلمين والقضاء عليهم هدفا مقدسا لدى القوى الأوروبية والرهان الذي يستحق كل بذل وكل تضحية من قبلهم منذ ذلك الوقت.

وعلى هذا الأساس انطلقت هذه الحملات البحرية الجريئة على يد هنري الملاح (1394-1460) ابن الملك يوحنا ملك البرتغال، الذي استولى البلاد من المسلمين، والممتلئ حقدا على الإسلام وأهله، والذي كان يتلبسه هاجس وضع خطة إستراتيجية للالتفاف حول أفريقيا والوصول إلى المحيط الهندي، وحصار ديار المسلمين من الوجهتين الحربية والتجارية، وانتزاع تجارة الذهب وغيرها بأفريقيا الغربية من أيديهم، ثم الاتصال بما وراء الصحراء الكبرى، جنوبا بمملكة الحبشة التي كانت تعرف في أوروبا آنذاك باسم "مملكة القديس جون"، والاشتراك مع ملكها النجاشي في مهاجمة المسلمين من الجنوب في قلب ديارهم، وهي شبه الجزيرة العربية حيث الأماكن المقدسة، والاستيلاء على تجارة الهند والصين التي كانت حينذاك أكبر مورد لثراء العالم الإسلامي، وقطع مياه النيل عن مصر وجعلها أثرا بعد عين. وكان هذا الملاّح البرتغالي يندفع بكل حماسة لتحويل ذلك الحلم إلى حقيقة، وبداخله يقين مطلق بأنه تلقى أمرا من الله لأداء هذه المهمة المقدسة.

ولذلك فقد بدأ مهمته بالاستيلاء على شاطئ أفريقيا إلى الجنوب من مرّاكش لتوجيه ضربة ساحقة لمسلمي المغرب. فكان عمل هنري الملاح هذا وعمل من جاء بعده من قادة الأساطيل الأوروبية امتدادا فعليا للحروب الصليبية وتدشينا للحركة الاستعمارية، وهو يسقط كل الادعاءات المضللة التي تقول إن هدفهم كان هو القيام بحركة كشوف جغرافية لذاتها.

كانت مطاردة العرب في المراكز التجارية الأفريقية والهندية، وإغراق سفن المسلمين، بما فيها سفن الحجاج، وقصف مدنهم وقراهم.. عملا يوميا واعتياديا للبحارة البرتغاليين.

البوكيرك وذروة التطرف

وقد بلغت الأعمال العدوانية ضد المسلمين ذروتها في عهد "البوكيرك"، وهو أشهر القادة البحريين البرتغاليين الذين ظهروا في البحار الشرقية والمحيط الهندي سنة 1506، وبخاصة بعدما أصبح نائبا لملك البرتغال في الهند آخر سنة 1509، فقد نقل البوكيرك الحرب ضد المسلمين إلى داخل البحر الأحمر وقاد الحملة تلو الحملة للسيطرة على ميناء جدة، وكان يحمل مشروعا ضد الإسلام مسرفا في عدوانيته ووحشيته، ألا وهو تدمير مكة والمدينة حرسهما الله تعالى.

وكانت مطاردة العرب في المراكز التجارية الأفريقية والهندية، وإغراق سفن المسلمين، بما فيها سفن الحجاج، وقصف مدنهم وقراهم الساحلية بالمدافع وتدميرها، وإحراق مساجدها، وقتل الأسرى المسلمين وتعذيبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وآذانهم وأنوفهم، بمن فيهم النساء والأطفال، عملا يوميا واعتياديا للبحارة البرتغاليين على طول ساحل أفريقيا الشرقي وسواحل البحرين الأحمر والعربي والمحيط الهندي.

وكانت هذه الممارسات الإجرامية ضد المسلمين تحظى بمباركة البابا، ومن ذلك تجارة الرقيق بما اقترنت به من وحشية وحقارة وانتهاك للآدمية، والتي كان من نتائجها اعتناق هؤلاء للمسيحية وإفراغ مناطق واسعة في أفريقيا من سكانها. بل إن البابا نقولا الخامس ومن جاء بعده قدّموا نفوذهم الأدبي لإغراء البحارة المسيحيين للانخراط في هذه الحملات بمنحهم صكوك الغفران ووعدهم بالعفو في "يوم الحساب"، كما منحوا البحارة الحق في احتلال وإخضاع ما يشاؤون من الشعوب التي لا يسودها حكم المسيح وأن يمخروا البحار اللازمة للقضاء على ما سموه "طاعون الإسلام".

وينطبق هذا الوصف أيضا على حملات الإسبان البحرية إثر دخولهم الحلبة بعد سقوط مملكة غرناطة عام 1492، فإنهم انطلقوا مباشرة نحو شواطئ المغرب، في استمرار لمعركتهم ضد المسلمين بالأندلس، فاحتلت أساطيلهم ثغور مليلة ووهران والجزائر بين عامي 1497 و1510، فقتلوا أهلها دون رحمة كما فعلوا ذلك بمسلمي الفلبين فيما بعد؛ فقد كان المسلم هو العدو ولا بد من قتاله وسحقه في كل مكان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.