شعار قسم مدونات

إلى ابني الحنون.. تذكر أن الدنيا بلا قيمة

أفادت دراسة أميركية حديثة بأن إيذاء الأطفال نفسيا من قبل الوالدين أو القائمين على تربيتهم
ذكريات هائلة لا يمكن احتواؤها عادت بي إلى أيام الطفولة تركتها خلفي (الجزيرة)

بني الحبيب، اسمح لي هذه المرة بأن أدخل معك في الموضوع مباشرة، وهو حول قضية تتعلق بهذه الجملة، "هكذا هو حال الدنيا"، جملة قلما يمر علي يوم دون أن أسمعها، ربما لها علاقة وطيدة بالسن وتقدمه، في الماضي البعيد لم أكن أسمعها تقال إلا مرة واحدة في السنة ربما، أو أنني لم أكن ألتفت إليها كثيرا، كانت اهتماماتنا في الصغر تختلف كليا عن اهتماماتنا اليوم حين كبرنا وقاربنا الهرم.

أحيانا تجدني أتأمل بها قليلا وبقائلها، وهي عبارة تحمل كمّا هائلا من الألم، فمن هم في عمري اليوم تعودوا قولها حين المصائب التي يكون في غالبها الموت، لكن بالفعل هذا هو حال الدنيا لا تنفك تذكرنا بأنها بلا قيمة، فهي بين الفينة والأخرى كأنها تمسكنا من ذراعينا وتهزنا بقوة وتصرخ، هي بني تذكر أن الدنيا بلا أي قيمة.

اليوم فقدت ابن عم لي هناك في الوطن السليب وقد كان في عز قوته، 54 عاما، مات فجأة بعد أن تناول وجبة الفطور في باحة منزله الريفي مع أخيه الأكبر حيث كانا يجلسان أرضا بالقرب من موقد الحطب البسيط أو ما نطلق عليه نحن هناك "الموقدة" والتي وضع عليها قدرا مخصصا لها يحوي عصير الخروب الذي عصره بنفسه من موسم هذا العام كي يصنع منه دبس الخروب، كان سيضعه في قنّينات زجاجية كي يأخذها معه إلى الأردن هدية لأخواته وإخوانه المغتربين بالإضافة إلى قنّينات زيت الزيتون البكر ومكبوس حب الزيتون والزعتر والميرمية وبعض من حب الليمون الناضج الأصفر من ليمونة الدار والذي غالبا ما يؤكل بقشره.

بكيت كثيرا وبحرقة، فأنا لم أره منذ زمن فهو في بلدي المحتل هناك وأنا هنا بعيد، حين وصلني الخبر وأنا أقود مركبتي ترجلت منها وعدت إلى المنزل مشيا تحت أشعة الشمس دون أن أدرك ذلك.

بعد أن انتهى من فطوره ذهب بصينية الطعام فوقع مغشيا عليه، كانت جلطة مفاجئة لم تترك له متسعا من وقت كي يودع هذه الدنيا أو حتى ينهي تحضير دبس الخروب، حين استمر الحطب مشتعلا بالموقدة حتى ضعفت النار وخفتت بينما الجيران وباقي الأهل تجمعوا في فناء الدار على هول المصيبة وعظم الصدمة، إلا أن أحدهم رفع القدر أخيرا وأفرغها في أوان ووضعها كي تبرد على طاولة في المطبخ، كان آخر دبس خروب يصنعه في حياته وقد تعود صنعه كل موسم.

بكيت كثيرا وبحرقة، فأنا لم أره منذ زمن فهو في بلدي المحتل هناك وأنا هنا بعيد، حين وصلني الخبر وأنا أقود مركبتي ترجلت منها وعدت إلى المنزل مشيا تحت أشعة الشمس دون أن أدرك ذلك، لم أصدق أنه مات وأن عمره الضئيل انتهى هنا وإلى الأبد، كنت أفكر في السابق أنه إن رزقني الله زيارة إلى الوطن المحتل بأن أذهب برفقته إلى الأرض لنصنع الشاي على نار الحطب والقش ونعيد بعضا من ذكريات الأيام الخوالي حين كنا نذهب إلى "الهيش" كما كنا نسميه في موسم قطاف الزيتون، ونتناول هناك تلك الأطعمة والطبخات التي لا نحب أن نتناولها في البيت، فتصبح من ألذ الأطعمة، كان من عادته أن يقضي معظم الصباح أثناء وجودنا في الهيش في إعداد الفطور الذي عادة ما يكون "قلاية" بندورة وبطاطا مقلية وبيضا مقليا وجبنة بلدية مقلية وإبريق شاي حلو وثقيل يتركه يغلي على بواقي نار الحطب بينما نشرب الشاي الكأس وراء الكأس، يا إلهي كم كنت أتوق إلى عيش تلك الأيام مرة أخرى.

اليوم لن يتحقق هذا الشيء بالمرة، تركت خلفي ذكريات هائلة لا يمكن احتواؤها، لقد عادت بي تلك الذكريات إلى أيام الطفولة حين كنا نلعب المصارعة هناك (بالعلية) الكائنة في عقد جدي كما نسميه، وهو أحد البيوتات القديمة في قريتنا التي بنيت قبل نحو 150 عاما، وذكريات موسم حراثة الأرض على الحمار، كثيرة هي الذكريات التي عادت إلي فجأة، لا أدري في الحقيقة لماذا أكتب لك وأنت لن تقرأ أو حتى تدري أني أكتب، لكن أردت أن أكتب لك.

بني الحبيب، اليوم بعد 3 أشهر مات ابن عمي الثاني الذي كان يفطر مع الأول وقت موته، تصور مات حزنا على أخيه حيث وجدوه بعد أن غاب كل النهار وهو يجلس في المكان نفسه، يا الله لم يبق لي أحد من أبناء عمومتي هناك، إنه يكبره بـ10 أعوام، وحسب ما يقولون عندنا فقد مات في عز قوته، الحزن الذي مررت به أخيرا كان لا يطاق يا بني.. لا يطاق.

لعلك ستفهمني يوما ما وتشعر بي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.