شعار قسم مدونات

كل شيء في عقلك

Leader of Danish political party Stram Kurs Rasmus Paludan outside the Turkish embassy, in Stockholm
مشعلو الحرائق يسعون لأن تتحول شعلاتهم البغيضة إلى حالة حرب تعم كافة مكونات المجتمع (رويترز)

"كل شيء في عقلك" هذه العبارة تحمل في طياتها الكثير من المعاني التي تحوم حول التصرفات النفسية والجسمية الصادرة عن سلوك البشر، فأفكار الإنسان هي التي ترتفع به أو تهوي به في واد سحيق، ومعظم الصراعات التي حصلت في التاريخ البشري منشؤها فكري.

من هو راسموس بالودان؟

دانماركي حاصل على الجنسية السويدية، محام سحبت رخصته لممارسة المهنة نتيجة لسجله الحافل بالقضايا، متهم بالهوس الجنسي الشاذ مع الأطفال، وتدور نشاطاته حول الإساءة والتطرف.

إذا نظرنا نظرة سريعة فاحصة إلى تاريخ الرجل تجعلنا ندرك أنه يعيش حالة تخبط وصراع نفسي وفكري تجلت بوضوح في أفعاله المسيئة المتكررة تجاه الإسلام والمسلمين.

لماذا الإسلام دوما؟

الإسلام من اليوم الأول الذي وجد فيه بجزيرة العرب نزل كرسالة عالمية تكرر هذا التأكيد في مواضع كثيرة في القرآن الكريم {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} [الأعراف: 158]

وقد وعى المسلمون من اللحظة الأولى ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم ابتداء من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي بعث الخطابات للملوك وسير السرايا وأرسل الرسل مرورا بالخلفاء الراشدين ومن بعدهم، لتصل الفتوحات إلى عمق العالم في الشرق والغرب، وما زال الإسلام في الوقت الحاضر الدين الأسرع نموا في العالم.

وعلى الرغم من أنه بدأ في الجزيرة العربية فإن النسبة الكبرى من المسلمين اليوم يعيشون خارج العالم العربي، هذا الحضور العالمي المستمر للإسلام سيجعله بلا ريب موضع أخذ ورد وتدافع مع الأفكار والعقائد، ونقد وتمحيص وسيتجاوز الأمر ذلك بطبيعة الحال للهجوم والإساءة، ويتفاوت ذلك بحسب الظروف والمعطيات المحيطة.

لا يمكن أن تمر هذه الإساءات دون ردود أفعال من المسلمين تجاهها، فهي تمس في المسلم الجانب المقدس ممنوع الاقتراب، وتشعره بإهانة عظيمة لا يستطيع أن يتسامح معها، لذلك فإن التعبير عن رفض هذه الإهانة عادة ما يكون مشحونا بالغضب والانفعال

مسيئون بلا حدود

الملاحظ أن هؤلاء المسيئين أو أكثرهم لا يقومون بأفعالهم لمجرد تفريغ عقدهم النفسية والفكرية تجاه الإسلام والمسلمين، فليست هذه غايتهم الوحيدة فالمقصد الأهم هو الإثارة ولفت الأنظار، يسعى مشعلو الحرائق لأن تتحول شعلاتهم البغيضة إلى حالة حرب تعم كافة مكونات المجتمع، لذلك فإنهم يقومون باستدعاء الصحافة والإعلام ويتموضعون في مواضع تثير الجدل والاستفزاز لضمان الرد عليهم والتفاعل معهم بأعلى مستوى، لتنتقل الحالة بين أخذ ورد لسلوك شعبوي يصبح مشعلها أحد الرموز الشعبية، وهذه غايتهم.

رد فعل حتمي

لا يمكن أن تمر هذه الإساءات دون ردود أفعال من المسلمين تجاهها، فهي تمس في المسلم الجانب المقدس ممنوع الاقتراب، وتشعره بإهانة عظيمة لا يستطيع أن يتسامح معها، لذلك فإن التعبير عن رفض هذه الإهانة عادة ما يكون مشحونا بالغضب والانفعال أو الاستياء الشديد على أقل تقدير، تحاول النخب المسلمة دوما ترشيد هذا الانفعال وضبط وجهته وتحريكه بالاتجاه الصحيح ليؤتي ثماره بما يخدم الإسلام والمسلمين ويرد لهم اعتبارهم دون تجاوز أو أذية شرعية أو قانونية، فليس الهدف من التفاعل مع المسألة مجرد تفريغ شحنات الغضب إنما وضع حد لهذه الإساءات بالطرق الممكنة حفاظا على ديننا من المساس ومقدساتنا من الانتهاك.

الكثير من الناس في هذه البيئات لا يدركون على وجه الحقيقة معنى حرق القرآن الكريم ولماذا ينفعل المسلمون لهذه الدرجة في التعامل مع هذه القضايا، لا يستطيع الفرد منهم أن يتفهم حالة الغضب العارم وما ينتج عنه من سلوكات، لأن الدين بالنسبة لكثير منهم أمر ثانوي هامشي لا يحتل في شعور الفرد ووجدانه مكانة أساسية كالتي تعيش في الفرد المسلم

إستراتيجية الخطاب

للخطاب مستويات عدة داخلية، وهو ما كان داخل المجتمعات الأوروبية والمجتمعات العربية، وخطاب خارجي وهو الخطاب السياسي والدبلوماسي بين الأطراف الرسمية وله حالات متفاوتة تتسم بالصرامة حينا لدرجة القطيعة أو التواصل المحسوب القائم على تبادل المصالح ومراعاتها، وخطاب الشعوب القائم على التدافع في الأصل، لكنه قد يفقد قدرته على ضبط النفس ويتأثر بعوامل كثيرة فيتحول إلى تحارب.

ما أريد الحديث عنه في هذا السياق هو لغة الخطاب حول المسألة داخل المجتمعات الأوروبية والموجه لها أيضا.

فروق ثقافية ونفسية

الذي يجب أن ندركه أن الكثير من الناس في هذه البيئات لا يدركون على وجه الحقيقة معنى حرق القرآن الكريم ولماذا ينفعل المسلمون لهذه الدرجة في التعامل مع هذه القضايا، لا يستطيع الفرد منهم أن يتفهم حالة الغضب العارم وما ينتج عنه من سلوكات، لأن الدين بالنسبة لكثير منهم أمر ثانوي هامشي لا يحتل في شعور الفرد ووجدانه مكانة أساسية كالتي تعيش في الفرد المسلم، وفرق كبير بين إنسان خالط الإيمان حشاشة قلبه وبين إنسان لم يجرب يوما أن يلامس النور فؤاده، إنه لفرق مهول بين إنسان يتمحور حول دينه ويدور في فلكه وبين آخر ما جرب أن يخشع لله يوما.

لذلك، فإن الناس لا يستطيعون أن يتفاعلوا مع قضايا لا يفهمونها جيدا وإن استاؤوا لما سببته هذه الإساءة من إيذاء لمشاعر المسلمين وتعاطفوا مع ضحاياها، لكنهم يستاؤون أيضا من ردود الأفعال شديدة الغضب حولها، وأي فوضى أو خرق للقانون كنتيجة لها يشعرهم بالتساوي بين الجاني والضحية، بل يولد لديهم شعورا بالنفور، هذا ما يجعل المسلم هناك يدور في حلقة مفرغة ابتداء من مشاعر الإهانة الدينية، مرورا بخذلان المجتمع الذي ينبغي أن يكون أهم مرتكزاته في وضع حد لهذه الإساءة.

منظومة القيم الإسلامية تتفق مع القيم الأخلاقية العالمية التي تسعى للحفاظ على حقوق الإنسان والتعايش بين البشر، ونستطيع بلا ريب صياغة خطاب يتناسب مع المجتمعات على اختلاف مشاربها ومذاهبها

البناء أولى من الهدم

عندما نتعامل مع هذه القضايا فإن البناء مهم جدا عبر تشييد جسور للتواصل والبحث عن مساحة مشتركة مع باقي مكونات المجتمع، مع تحاشي كل ما يؤدي إلى فقدان التأييد الشعبي الذي يعتبر الوقود المحرك لتشريع القوانين في الدول الديمقراطية، إضافة إلى ذلك علينا أن نخاطبه بلغته وما يمس شعوره وقيمه النبيلة.

وفي هذا السياق، يقول الأستاذ حسام شاكر المختص بالشؤون الأوروبية "أحسب أن الخيار الأمثل التركيز على فضح خطاب الكراهية وحملات التحريض ودعاوى العنصرية ومحاولات الشغب، إعادة تعريف الهجمة مهمة جدا في هذا المقام، التحدي يتمثل في كسب أوسع أوساط ممكنة في مواجهة الكراهية والتحريض والتشويه والعنصرية والشغب، في هذه المواقف لا غنى عن إبراز القيم النبيلة التي ينتهكها دعاة الكراهية أولئكم، كي يكون النقاش عن القيم التي تضرب لا عن "طائفة دينية" وحسب".

إن منظومة القيم الإسلامية تتفق مع القيم الأخلاقية العالمية التي تسعى للحفاظ على حقوق الإنسان والتعايش بين البشر، ونستطيع بلا ريب صياغة خطاب يتناسب مع المجتمعات على اختلاف مشاربها ومذاهبها، واجبنا أن نلامس الجانب الإيجابي فيهم، ونرفع صوت العقلاء في المجتمعات المختلفة، ونحجم أثر الكراهية بالإستراتيجيات المناسبة فلا يرتد صدى فعلهم إلا على أنفسهم، ثم نبحث في أسباب هذه السلوكات الشاذة فنعالجها بحكمة المسلم الذي لا تصرفه الأحقاد عن رسالته السامية التي ملأت عليه عقله وفؤاده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.