شعار قسم مدونات

قراءة في "ثمرات الأوراق"

غلاف كتاب ثمرات الأوراق
غلاف كتاب ثمرات الأوراق (الجزيرة)

منذ أشهر وأنا أتفيأ ظلال الأوراق مجتنيا من ثمراتها اليوانع ما يذهب به الظمأ وتبتل به العروق في روضة من رياض "تقي الدين أبي بكر بن حجة الحموي" تغمده الله بواسع رحمته قد وسمها بـ"ثمرات الأوراق".

وقد وجدتها مثمرة الأغصان دانية القطوف متصلة الأواصر بأمات كتب الأدب تأخذ من خمائلها ما لذ وطاب.

وكان أول ما وقفت عليه حين غصت فيه درة صدفية من "درة الغواص" لأبي محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات المشهورة، وهي حكاية عجيبة تدل على أن من اتقى الله تعالى يجعل له مخرجا ويأتيه الفرج من حيث لم يكن يتوقع.

أظلومُ إنّ مصابَكم رجلا      أهدى السلامَ تحيةً ظلمُ

حكاية المازني واليهودي:

"أبا العباس المبرد روى أن بعض أهل الذمة سأل أبا عثمان المازني قراءة كتاب سيبويه عنه وبذل له 100 دينار في تدريسه إياه فامتنع أبو عثمان من ذلك، فقال له المبرد: جعلت فداك أترد هذه النفقة مع فاقتك واحتياجك إليها، فقال أبو عثمان: هذا الكتاب يشتمل على 300 وكذا آية من كتاب الله، ولست أرى أن أمكن منها ذميا غيرة على كتاب الله تعالى وحمية له، ثم إنه اتفق أن غنت جارية بحضرة "الواثق" من شعر العرجي:

أظلوم إن مصابكم رجلا      أهدى السلام تحية ظلم

اختلف من بالحضرة في إعراب "رجلا" فمنهم من نصبه وجعله اسم "إن" ومنهم من رفعه على أنه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بإشخاصه فلما مثل بين يديه سأله عن إعراب "رجلا" هل يرفعها أم ينصبها فقال الوجه النصب، إذ إن "مصابكم" بمعنى "إصابتكم" فاعترض بعض الحاضرين لكنه أفحمه وأمر له الواثق بألف دينار فلما عاد إلى المبرد قال له: رددنا لله مائةً فعوضنا ألفا.

لولا المشقة ساد الناس كلهم      الجود يفقر والإقدام قتال

السيادة

وقد وقفت فيه على حكاية أردت إثباتها هنا لما فيها من بلاغة السائل مع الإيجاز المشفوع بحسن الإشارة ورجاحة عقل المجيب وسلامة فهمه قال: إن جمال الدين بن مطروح كتب لبعض الرؤساء رقعة فكتب ذلك الرئيس "هذا الأمر عليّ فيه مشقة" فكتب ابن مطروح "لولا المشقة" مشيرا إلى بيت المتنبي:

لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلُّهم      الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتّالُ

فلما وقف عليها فهم الرئيس الإشارة وقضى حاجته على الفور؛ وقد أحالتني هذه الحكاية إلى أبيات لجدنا "بدي" رضي الله عنه ينصح فيها بعض أبناء السادة الأكارم في بلادنا ولم يزل الأمهات يُحفّظنها الأبناء تحفيزا لهم إذ يقول:

إن الـسـيـادة فـي اثنتين فـلا تـكــن       يا ابن المشايخ فيهما بالزاهد

حمل المشقة واحتمال أذى الورى       ليس المشمر للعلى كالقاعـد

لا تغضـبن ولـن مقالا واحـتمـل        بذلول حلمك عبء جهل الحاسد

قـل للذي طـلـب الـعـلا بسواهمـا        هـيهات تضرب في حديد بارد

إن الذين غــدوا بلــبـك غـادروا    وشلا بعينك لا يزال معينا

غيضن من عبراتهن وقلن لي     ماذا لقيت من الهوى ولقينا

أريحية الأفاضل

قيل إن الجنيد قال: ما انتفعت بشيء كانتفاعي بأبيات سمعت جارية بها بدرب القراطيس:

إذا قلتُ أهدى الهجرُ لي حُلَلَ الأسى     تقولين لولا الهجرُ لم يطب الحبُّ

وإن قلت ما أذنبـت قالـت مجيبــة       حيـاتـك ذنبٌ لا يقــاس به ذنبُ

فصعقت؛ غير أن مجال أريحية أهل الفضل ذو سعة لا يسعها مقال واحد ونورد منها ما يحكى عن "عطاء" الفقيه أنه تعرض لابن سريج المغني قاصدا صده عن الغناء فقال له ابن سريج: اسمع مني وأخذ في غناء قول جرير:

إن الذين غَــدوا بلُبِّـك غـادروا    وشلا بعينك لا يزال معينا

غيضن من عبراتهن وقلن لي     ماذا لقيتَ من الهوى ولقينا

فأخذت "عطاء" الأريحية وحلف لا يخاطب أحدا ذلك اليوم إلا بهذين فكلن كلما سأله سائل عن حلال أو حرام ضرب بيده على الأخرى وأنشد البيتين.

أراهن لا يحببن من قـل مالــه    ولا من رأين الشيب فيه وقوسـا

الشيب

جرى ذكر الشعر في ثمرات "الحموي" هذه فذكر أن أبا علي الفارسي قال "ما أعلم أن لي شعرا غير 3 أبيات في الشيب:

خضبتُ الشيبَ لما كان عيبا     وخضبُ الشيء أولى أن يُعابا

ولم أخضب مخافة هجر خلٍّ     ولا عيبا خشيت ولا عتابا

ولكـن المشيب بـدا ذميمــا      فصيّرت الخضاب له عقابا

وقبله ذكر في القرآن حكاية عن إبراهيم عليه السلام "وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا" (سورة مريم/ من الآية 4)، وقد جرى ذكر الشيب على لسان الشعراء وقد اختلفوا فيه فمنهم من عابه ولعل من أوائلهم امرؤ القيس بن حجر حيث يقول:

أَرَاهُنّ لا يُحْبِبنَ مَن قـلّ مالُه    ولا مَن رأَيْنَ الشيبّ فيه وَقوّسـا

وكذلك كان رأي علقمة إذ قال:

فإن تسـألوني بالنسـاء فـإننـي    بصيرٌ بأدواءِ النساء طبيبُ

إذا شاب رأسُ المرءِ أو قلّ مالُه    فليس له من وُدِّهنّ نصيبُ

أرى الشيبَ أضحى في مفارق لمتي     يدب دبيبَ الصبحِ في غسق الظلم

وفي "وفيات الأعيان" أن سليمان بن وهب نظر مرة في المرآة فرأى شيبا كثيرا فقال: "شيب لا عدمناه".

ومن غريب ما رويت عن بعض طلبة العلم أن عالما من علماء الشناقطة سمع بيتا في الشيب فقال: العرب لا تقول بيتا واحدا ثم جعل له بيتا قبله ثم عثر بعد ذلك على البيت المذكور في بعض الكتب القديمة ومعه نفس البيت في اختلاف يسير وهو أن في البيت لفظ "أضحى" وقال العلم "أمسى" أو العكس -شك مني- وهما:

أرى الشيبَ أضحى في مفارق لمتي     يدب دبيبَ الصبحِ في غسَق الظُّلَم

هو الســقــمُ إلا أنـه غــيــرُ مــؤلــمٍ       ولم أَرَ قبل الشيبِ سـقـما بلا ألـم

ولهذه القراءة بقية سوف أعود إليها بإذن الله تعالى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.