شعار قسم مدونات

المنشد أبو مازن المربي بالجمال

رائد الإنشاد أبو مازن (الجزيرة)

من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم تقديره العظيم لأصحاب المواهب النافعة وتشريفه لهم بالحضور وزف البشارة إليهم؛ فأي تقدير أعظم لمن رزق موهبة حسن الصوت من إصغاء سيد البشر صلى الله عليه وسلم إليه وتنويهه بموهبته؛ فقد كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه "حسن الصوت بالقرآن"، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يستمع إلى قراءته وأنبأه بذلك التشريف العظيم كما في رواية مسلم أنه قال له "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة"، وبشره بقوله الشريف "لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود". وكاد رد أبي موسى الأشعري ردا فطريا جمع بين حب إسعاد النبي صلى الله عليه وسلم وعميق الامتنان له فقال "لو علمت لحبرت لك تحبيرا ولشوقت لك تشويقا"، كما في ابن أبي شيبة.

وكما وقف النبي صلى الله عليه وسلم لتلاوة أبي مسلم الأشعري، وقفت أمهات المؤمنين رضي الله عنهن مستمعات متشوقات لمزاميره الداودية التي كانت تتردد نسماتها المشرقة بين أرجاء المدينة النبوية في لياليها المطمئنة والمفعمة بالإيمان والحي والسكينة؛ فـ"لابن سعد من حديث أنس بإسناد على شرط مسلم أن أبا موسى قام ليلة يصلي فسمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صوته وكان حلو الصوت فقمن يستمعن فلما أصبح قيل له فقال لو علمت لحبرته لهن تحبيرا"، كما في فتح الباري ج9، ص 93، وعلى هدي النبي صلى الله في تقدير الموهوبين سار الفاروق، فقد "كان عمر يقدم الشاب حسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم".

كان الاهتمام بالأصوات الحسنة قديما، وبالغ أهل الغناء في تاريخنا في تقديرها وتأثيرها حتى قال بعضهم "ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى"

فبهذا الهدي النبوي والاتباع الراشدي في تقدير المواهب النافعة والاحتفاء بأصحاب الأصوات الحسنة ندرك محورية الأصوات الجميلة في أصول التكوين الجمالي والصحي لأصحاب الفطر السليمة، وهي محورية أدركها أطباؤنا الأقدمون فذكروا "أن ‌الصوت ‌الحسن يسري في الجسم، ويجري في العروق، فيصفو له الدم، ويرتاح له القلب، وتنمو له النفس، وتهتز الجوارح، وتخف الحركات؛ ومن ذلك كرهوا للطفل أن ينوم على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب"، كما في "العقد الفريد" 4/7.

كان الاهتمام بالأصوات الحسنة قديما، وبالغ أهل الغناء في تاريخنا في تقديرها وتأثيرها حتى قال بعضهم "ربما غنيت هذا الصوت وأنا جائع فأشبع، وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط، وربما غنيته وأنا عطشان فأروى". وكتب أبو الفرج الأصفهاني "أغانيه" الخالدة، وجاء الصوفية وعقدوا مجالس الإنشاد، فكان "مما يتمتع به الفقراء سماع الصوت الحسن" كما يروي الشعراني عن المحاسبي، ثم خرجت الحركات الإسلامية المعاصرة ببديل إنشادي يتكئ على "باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء" في صحيح الإمام البخاري، فراعى ضعف القوارير ومقتضيات التنبيه النبوي للحادي أنجشة، وعزف على أوتار قضايا الأمة فأثار مكامن الشجاعة ودواعي البذل لدى عموم الأمة.

وفي خضم انشتار البديل الإسلامي الملتزم باتزان برز المنشد الإسلامي الكبير السوري رضوان خليل عنان المعروف بـ"أبو مازن" الذي ولد عام 1952 في دمشق الفيحاء، وتلقى تعليمه فيها ليبدأ رحلة الإنشاد في مرحلته الثانوية، ثم نال حظه من محنة السوريين على يد حافظ الأسد فهاجر إلى القاهرة وأسس بها مصنعا وأصدر أناشيده التي سارت بها الركبان وتميزت بانتقاء كلماتها ومواضيعها، وعرفت جماهير الصحوة بكبار الشعراء الإسلاميين مثل محمد إقبال، وسيد قطب، وهاشم الرفاعي، ويوسف العظم، ومصطفي حمام، وغيرهم.

كانت كلمات سيد قطب "أخي أنت حر وراء السدود" أول نشيد عبر إلى العالم عبر حنجرة المنشد "أبو مازن" حاملا معه طموح الصحوة وصمود أبنائها في وجه المحن الطاحنة، ثم أنشد لمحمد إقبال "الصين لنا والعرب لنا" و"الليل ولى لن يعود" و"حطموا ظلم الليالي" و"فتية الحق أنيبو"، ولهاشم الرفاعي قصائد "شباب الإسلام" "وأنا مسلم" و"أنا عالمي" و"أرملة الشهيد تهدهد طفلها"، وهي أناشيد تعبر عن مرحلة "أستاذية العالم" والتعالي على حدود "سايكس بيكو"، كما أنشد لإمام العصر الشيخ يوسف القرضاوي قصيدة ‌‌"مسلمون مسلمون مسلمون".

سجل المنشد أبو مازن 10 أشرطة جمعت في كتاب وترددت في أصداء الدنيا تكافح القبح والإباحية والظلم والطغيان، وتدعو إلى الفضيلة وقيم الإسلام السمحة، وعلى صوته تربت أجيال من الصحوة تمتد من داكار غربا إلى جاكرتا شرقا

وأنشد لعبد الحكيم عابدين "جدد العهد" ‌‌و"نشيد الكتائب" الشهير بمطلعه "هو الحق يحشد أجناده"، وفي "حماك ربنا"، ولمروان حديد "‌‌أحباب ديني أحبة الإسلام"، و"أحزان قلبي لا تزول"، ومع شاعر الصحوة يوسف العظم أناشيده الحماسية عن معارك "القادسية" و"حطين" و"عين جالوت"، وعن "أمي وحضنها الأمان" و"أبي الذي دعاني إليه" وعن "مكة وصوتها" و"الأقصى" و"رمضان" "والهجرة".

سجل المنشد أبو مازن 10 أشرطة جمعت في كتاب وترددت في أصداء الدنيا تكافح القبح والإباحية والظلم والطغيان، وتدعو إلى الفضيلة وقيم الإسلام السمحة، وعلى صوته تربت أجيال من الصحوة تمتد من داكار غربا إلى جاكرتا وتركستان الشرقية شرقا، ووحد أبو مازن وجدانها وربطها بهموم المسلمين وقضايا الأمة، وحمل هم النشيد الإسلامي بعد "أبو مازن" أقوام آخرون لكن أناشيده ظلت حاضرة بقوة لدى الأجيال التي عرفتها منذ الثمانينيات، وهي الأجيال التي تلقت أمس 23 شعبان 1444هـ نبأ رحيله في القاهرة بأسى وحسرة وذكريات بدأت لدى أغلبهم من المسجد حيث بدأ هو نشيده الأول، ألحقه الله بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.