شعار قسم مدونات

مونديال قطر وحقيقة الواقع الغربي

شارك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، السبت، في تصويت الأناضول لاختيار "صور العام" الملتقطة من قبل مراسلي ومصوري الوكالة داخل البلاد وخارجها عام 2022. وقدم رئيس مجلس إدارة الأناضول، المدير العام، سردار قره غوز معلومات للرئيس التركي حول الصور. وفي فئة الأخبار، اختار الرئيس أردوغان صورة بعنوان (الرحلة الأولى لـ"توغ") للمصور سرغن سزغين، التقطها خلال افتتاح مصنع السيارة المحلية الكهربائية التركية.أما في فئة البيئة والحياة، فاختار أردوغان صورة "إخماد الحريق" للمصور أورهان تشيتشك، وهي صورة لسلحفاة أصيبت بحريق في غابات ولاية موغلا التركية، يقدم لها عنصر من قوات الجندرمة الماء. وفي فئة الرياضة، اختار أردوغان صورة "سجدة الشكر" للمنتخب المغربي في منافسات كأس العام بقطر، للمصور صالح زكي فضلي أوغلو. ( Salih Zeki Fazlıoğlu - وكالة الأناضول )
سجود منتخب المغرب بعد التأهل لربع نهائي كأس العالم على حساب إسبانيا (الأناضول)

تكشفت كثير من الحقائق عن الواقع الغربي في مونديال قطر لعام 2022 كانت غائبة، أو بالأحرى مغيَّبة على الكثيرين من العرب والمسلمين عامة في الماضي، وبخاصة أولئك الذين لم يخبروا الغرب عن كثب عبر معايشة طويلة لشعوبه!

لقد بدأ الأمر بالهجوم غير المسبوق على دولة قطر، حسدا من عند أنفسهم، بالتشكيك في إمكاناتها وقدراتها إزاء التعامل مع استضافة وتنظيم المونديال، وقد شجب ذلك الهجوم أكثر من مسؤول قطري في السابق، مُبدين دهشتهم من الحملة الإعلامية الغربية الممنهجة ضد دولة قطر!

ولم يعد ذلك أمرا خافيا بخاصة بعد أن ضجت وسائل الإعلام الغربية علانية، وأبانت عن عنجهيتها وعنصريتها استعلاءً وفوقية، وكأن الرجل الأبيض هو الوحيد المفوض بالسيادة والإبداع والإمتاع غير منازع، وليس للرجل الملون سواء أكان آسيويا أم أفريقيا أم هسبانيا (من أميركا اللاتينية) الحق في الشراكة في ذلك ما دام لونه لا يسعفه ولا يؤهله لخوض غمار "المجد" العلمي والسؤدد حسبما يتراءى للأكثرية الكاثرة هناك توهما وظلما!

وهذا أمر ليس بالجديد، إذ يرى مستشرق قصير النظر يدعى فينست كرونن في كتابه "الرجل الراشد من الغرب" (The wise man from the west) أن الرجل الغربي أكثر قدرة على الرقي والتقدم من الرجل الشرقي، حيث عمد في كتابه إلى إسقاط الحضارة الإسلامية من التأريخ العالمي عندما كانت أوروبا تتخبط في ظلام دامس في العصور الوسطى!

فلا غرو إن انبثقت جراء ذلك حركات وأحزاب يمينية متطرفة تتبنى هذا النهج العرقي الاستعلائي المُشين، حيث توافينا وسائل الإعلام يوميا بالعجب العُجاب من الأخبار المنكرة في هذا السبيل!

السجود الجماعي عند الفوز لفريق المغرب، ذي الأداء التاريخي المذهل، أكد ولاء اللاعبين الحقيقي وصمود تماسكهم وتمسكهم بدينهم

وكانت المفاجأة أن أبدعت دولة قطر وحققت نجاحا مبهرا بحيث كان أفضل تنظيم وتقديم على الإطلاق في تاريخ المونديال بشهادة القيِّمين على الأمر والمتابعين المستقلين والمنصفين من الغربيين أنفسهم!

والنعرات العنصرية وكراهية الإسلام والمسلمين والخوف منهما تجلتا بوضوح في عدم الرضا عن أمور كثيرة منها الدعوة في سبيل الله من قبل الدعاة المجتهدين، إذ اعتنق الإسلام المئات من الزوار المشجعين حينما وقفوا على الحقائق بأم أعينهم.

أما السجود الجماعي عند الفوز لفريق المغرب، ذي الأداء التاريخي المذهل، فقد أكد ولاء اللاعبين الحقيقي وصمود تماسكهم وتمسكهم بدينهم حتى وإن شطَّت ببعضهم غربة النوى وآلام فراق الوطن!

وقد أبانوا كذلك للعالم أجمع قدسية البر بالوالدين عندما اصطحب اللاعبون أمهاتهم وفاء ونبلا، ليشهد الغرب والعالم بأسره دور ومكانة الأم عند المسلمين، على عكس ما جرت عليه العادة في الغرب إذ يُرمى بالآباء والأمهات بعد بلوغهم سنا معينة في الملاجئ ليعيشوا جحيما من الخوف والوحشة والغم، مما يُعجل برحيلهم إلى الدار الآخرة غير مأسوف عليهم!

وهذا الترابط الأسري الحميم عند المسلمين أغاظ وأهاج كثيرا من وسائل الإعلام في الغرب التي تجاوزت الأخلاق والقيم الفاضلة بوصفها لهذه الحميمية بين الأبناء والأمهات بعبارات عنصرية مُنتنة لا تليق بالتقدم والحداثة و"حقوق الإنسان" التي يتغنى بها الغرب في نشوة حينا، ويولي عنها مدبرا أحيانا أخرى، إذا ما رأى أن مصالحه أو مبادئه قد لحق بها الضرر البالغ جراء تعريتها، أو على الأقل، عندما كُشف النقاب عنها بطريق غير مباشرة، تقديرا من المولى عز وجل، في مونديال قطر، لتستبين الحقيقة الشوهاء والرعناء للجميع!

ورث الغرب أيديولوجيات الميكيافيلية الأنانية والبراغماتية النفعية والليبرالية التحررية والداروينية الإلحادية وغيرها من المذاهب والنظريات الأوروبية شديدة الإثم والتطاول

لقد ورث الغرب أيديولوجيات الميكيافيلية الأنانية والبراغماتية النفعية والليبرالية التحررية والداروينية الإلحادية وغيرها من المذاهب والنظريات الأوروبية شديدة الإثم والتطاول، وهي تتبرأ في صلف وجاهلية جهلاء من روح الترابط والألفة والتجرد فيما يعرف بمكارم الأخلاق التي يتحلى بها المسلمون. فمعيار ومقدار السعادة وراحة البال، كما ذكر لي أحد الذين اعتنقوا الإسلام من الأوروبيين، يتأتى وفقا لمقدار الغوص في تبيُّن أحكام الإسلام من مصادره الحقيقية، لا من مراجع مزيفة ومزوِّرة للتأريخ كمعظم الدراسات الاستشراقية -مثلا- التي تعنى بدراسة الشرق عامة والشرق الإسلامي خاصة، من قبل "العلماء والباحثين" الغربيين، ليسهل الالتفاف حوله، ولذا تعرف بـ"العلم في خدمة الاستعمار"، وهي في كثير منها أقرب إلى أدب الخواطر والرحلات والنظريات التي تفتقر إلى الدقة في النقل وإلى المنطق العلمي السليم!

لقد أبان مونديال قطر -فيما أبانه- عن الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الإعلام الغربي، وهو يرى الأمور بمنظار معتل الرؤية، وفي الوقت نفسه من على بعدٍ شاسع بحيث تبدو له الأمور غير سوية، إذ الخلل فيه لا في سواه!

فالهزائم المتوالية أمام اللاعبين المغاربة الميامين لفرق رياضية تُوصم دولها بتأريخها الاستعماري البغيض، الذي يرتكز على أسس من الكبرياء الواهية الواهمة، كأنها تؤشر على بداية النهاية لاستكبار الرجل الأبيض، ويتراءى لي أن بكاء مشاهيرها من اللاعبين الدوليين أمام آلات التصوير، بعد الهزيمة المؤلمة، بكاء الأطفال الضائعين (They cried like lost children)، يؤذن بشر مستطير ينتظر الغربيين جزاءً وفاقا للهوان الذي أذاقوه لغيرهم من الشعوب المستضعفة عبر القرون!

وقد جزم قبل ذلك كتاب غربيون ببلوغ الغرب قمة الجبل، فلا مناص له بعدها من الانحدار تراجعا، كما يقال في اللغة الإيطالية "si sale si accende" (كما ترتفع تهبط)، وهذه سنة الحياة بالطبع.

وقد بلغ الأمر بأحد الكتاب الغربيين، ويدعى باتريك جي بوكانن، بأن يؤلف كتابًا سماه "موت الغرب"، وفقا للتدهور الأخلاقي المريع الذي يعانيه، وبذا يكون قد شهد شاهد من أهلها بحقيقة ملموسة بالنهاية المتوقعة، معللا ومدللًا ذلك بالبراهين والإحصائيات الدامغة والتي غدا يجأر بها القاصي والداني على حد سواء!

العباءة العربية (البشت) وما أدراك ما البشت؟! فقد أحدث زلزالا غير متوقع في وسائل الإعلام الغريبة، وقد كانت لفتة ذكية وموفقة من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني

يقول الشاعر:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم .. فأقم عليهم مأتما وعويلا

أما العباءة العربية (البشت) وما أدراك ما البشت؟! فقد أحدثت زلزالا غير متوقع في وسائل الإعلام الغريبة، وقد كانت لفتة ذكية وموفقة من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إذ ألبسه اللاعب الأرجنتيني ميسي، فالبشت رمز للعروبة والإكرام، ولا ننسى أن المصطفى عليه الصلاة والسلام قد خلع (هنا بمعنى ألبس) بردته الشريفة على سيدنا كعب بن زهير بن أبي سلمى تكريما له بعد أن جاءه تائبا، وألقى في حضرته لاميته العصماء التي قال فيها:

أمست سعادُ بأرض لا يُبِلِّغها .. إلا العتاق النجيبات المراسيلُ

أرجو وآمُل أن تدنو مودتها .. وما إخال لدينا منك تنويلُ

إلى أن قال:

أُنبئتُ أن رسول الله أوعدني .. والعفو عند رسول الله مأمولُ

إن الرسول لنور يُستضاءُ به .. وصارمٌ من سيوف الله مسلولُ

التطبيع مع الغاصبين اتضح رفضه بجلاء من قبل الشعوب العربية قاطبة، وهذا ما صرح به الصحفيون الإسرائيليون الموفدون إلى قطر والذين لم يستطيعوا استمالة القلوب والنفوس للقبول بالتحدث إليهم

نعم، لقد لاقت هذه البادرة الكريمة من أمير قطر هرجا إعلاميا سافرا لا مكان له بين عادات وتقاليد العرب المضيافة والمسالمة على عكس ما كان يتوقع الزوار من المشجعين لكرة القدم من غير المسلمين!

أما التطبيع مع الغاصبين فقد اتضح رفضه بجلاء من قبل الشعوب العربية قاطبة، وهذا ما صرح به الصحفيون الإسرائيليون الموفدون إلى قطر والذين لم يستطيعوا استمالة القلوب والنفوس للقبول بالتحدث إليهم، بل ذهب الأمر أبعد من ذلك، إذ أجمع جمهور المشجعين باختلاف دولهم على التعاطف مع القضية الفلسطينية بصورة لا تخفى على ذي بال، بعدما جاب ذلك التعاطف العالم بأسره عبر الصورة والصوت!

هذا جانب من الوجه الحقيقي للغرب ذي الحضارة المادية الاستهلاكية المسعورة سعيا وراء الكسب والجمع فقط، وبأي وسيلة مهما كانت، على شاكلة الميكيافيلية الوصولية ووفقا لشعارها الجائر علنا "الغاية تبرر الوسيلة" كما سبق أن ألمحنا.

إنها بعض الحقائق الدامغة التي كانت خافية على أكثر الناس، والتي أبرزها إلى السطح مونديال قطر الاستثنائي التاريخي استعدادا وتقديما ونجاحا باهرا يأخذ بالألباب، وقد شهد به الأعداء قبل الأحباب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.