شعار قسم مدونات

حوكمة الهوية والتنوع.. الأنموذج الإسلامي

المسجد الأموي في دمشق (شترستوك)

الكتابة في هذا الموضوع تكتسب أهمية كبيرة، كوننا نعيش في عالم متغير إذ إن الحديث عن الهوية لم يعد يقتصر على النظر إلى دوائر الائتلاف والاشتراك بين جماعة لهوية معينة في فضاء جغرافي محدد، إذ توجد غالبا في جميع الهويات دوائر هويات صغرى، مثل هويات الأقليات الدينية والإثنية المستضافة، كما هو الحال مثلا في دول الخليج.

ولذلك فإن الوعي بالهوية يلتزم بضرورة الاهتمام بالتنوع، الذي من خلاله تتحدد حدود الهويات الكبرى ومكوناتها الصغرى، سواء كانت تامة التغير، أو ما زالت في طور التغيير، وحتى تبقى إمكانات التواصل والدخول معها في تحالفات ممكنة، ليمكن لهما التعايش معا في نفس النطاق الجغرافي، وقد عزز ذلك الانفتاح على العالمية -بسبب التطور التقني والثورة المعلوماتية- وهو ما يساعد على الانفتاح على مجموعات هويات أخرى توجد في هذه القرية الكونية الواسعة، وذلك في الإطار الذي يحدده ويضبطه التنوع.

والحوكمة هي نظم وقرارات وقوانين ومخططات تضمن سلامة الهوية الجامعة، وتوفر لها الآليات والوسائل والتعديلات المطلوبة، لبناء الهوية وفق ما يستجد من أفكار حية تخدم مصلحة الجماعة وتزيد من حجم تأثيرها في التاريخ وفي المحيط الإقليمي والعالمي.

وهناك حوكمة محلية وهي التي تتعلق بالتدابير والترتيبات التي تتم في فضاء وطني محدود أو تحالفات معينة مع هويات أخرى، تكون بينهما مصالح مشتركة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية، كما توجد حوكمة عالمية تتعلق بالبرامج المصوغة أمميا لصيانة التنوع الديني والثقافي والإثني، وهي الأفكار التي صيغت في إعلان عالمي تحت رعاية منظمة التربية والعلوم والثقافة "اليونسكو" التي تم فيها التوافق على الآليات والإجراءات المطلوبة لصيانة التنوع، مما ترتب عليه صياغة بعض الدول من تدابير بناء على هذه الآليات والإجراءات.

الإسلام يؤسس للتنوع بأفكار حية في إطار المشاركة، مثل حماية حقوق الأقليات الثقافية والإثنية والدينية، كما يعتبر التنوع من أهم موروثات التراث البشري

وكذلك صاغت بعض المنظمات الثقافية المحلية والإقليمية -مثل المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "الإيسيسكو"- إعلاناتها عن التنوع الثقافي والإثني (الإعلان الإسلامي للتنوع الثقافي لدول منظمة التعاون الإسلامي)، لذلك فالفعل الحوكمي ملازم للتنوع، ويؤسس الإسلام للتنوع بأفكار حية في إطار المشاركة، مثل حماية حقوق الأقليات الثقافية والإثنية والدينية، كما يعتبر التنوع من أهم موروثات التراث البشري.

وتوجد في التاريخ الإسلامي نماذج راقية لحوكمة التنوع وتدبيره وحمايته.

  • أولا: وثيقة دستور المدينة التي أصدرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) عام 622م، لصياغة المجتمع المتنوع، حيث ألف بين فصيلي المهاجرين والأنصار، الأوس والخزرج، ونظّم التعايش بينهما ووفر نظاما للتكافل الداخلي وحث على دفع الظلم ومحاربة طغيان البعض ومحاربة الفساد، والتساوي أمام العدالة، وضمن الحرية للمخالفين في الدين وكفل لهم حق التدين، ونظم التعامل معهم، وفتح الباب لمن رغب في الانضمام إليها.
  • ثانيا: خطبة حجة الوداع، والتي نظم فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) التآلف بين مجتمع المؤمنين المتجانس، والمجتمع العام الإنساني وذلك بضبط الحقوق، وخاطب المعنيين بخطاب "أيها الناس" وبين أصول الدين وفروعه ومبادئه وآدابه، والتي تحرم الدماء والأموال، وتبين أنهم عباد لرب واحد، وأبناء لأب واحد، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وفي خطابه الموجه للناس، بين أن القواعد المعلنة تخص مجتمع الإيمان ومجتمع العالمين، وحفظ الحقوق والكرامة والإنسانية وسيادة العدل ورد المظالم، وكفل حق الجنسين -الذكر والأنثى- والتمسك بكتاب الله وسنة.
  • ثالثا: العهدة العمرية، مع أهل إيلياء (بيت المقدس)، حين فتحها المسلمون عام 638م، وقد أوضحت هذه العهدة احترام الإسلام للتنوع وحمايته وحرية التدين وممارسة الطقوس، والأمن على الأرواح والرموز والأيقونات الدينية وحماية أماكن العبادة، وإقرار الأمن وسيادة العدل واحترام الحقوق، دونما تفرقة بين عرق وجنس، أو دين وآخر، أو تميز ثقافة أو سيادة طبقة اجتماعية.
  • رابعا: الأنموذج الأندلسي، فخلال 8 قرون من الوجود الإسلامي في الأندلس، امتزجت الثقافات والأعراق وتأسست هوية أندلسية من العرب والبربر واليهود والقوط وغيرهم، ولقد بنى كل مكون في الأندلس هويته الثقافية وفقا لهويته وخصوصيته، التي تشكلت في هوية أندلسية جامعة، جعلت الأندلسيين جزءا لا يتجزأ من الهوية الإسلامية الجامعة، ففي الأندلس كان ابن حزم والقرطبي وابن حيان الغرناطي وابن زيدون وولادة بن المستكفي، والمعتمد بن عباد، وفيها كان ابن ميمون وأبو الحسن يهوذا اللاوي، وموسي بن عزرا، وفيها كان ابن ألفارو أو ألبارو القرطبي وابن القوطية والرُّمَيْكية، وأنتج المسيحيون المستعربون جانبا واسعا من تراث المسيحية باللغة العربية، وفيها استطاع اليهود إحياء لغتهم العبرانية وكتبوا علوم التوراة بعربية مكتوبة بخط عبراني ونسجوا شعرا عبر وجدانهم الأندلسي.

وأخيرا.. ولضيق المقام نقف في هذه المقالة الموجزة على نماذج لحوكمة التنوع من المنظور الإسلامي، الذي يمكن تلمسه في قوانين مثل تلك المتعلقة بأهل الذمة مثلا، وفي نماذج أدب الاختلاف بين الفقهاء المسلمين، والمحصلة أن التنوع كان له اعتباره في التجربة الإسلامية، وكان عامل بناء وتطوير وعامل أمن وأمان، وحرية وعدالة وكفاية.

وهذا إسهام متواضع لبيان روعة الإسلام وشموليته، في وقت يتكاثر الهجوم الظالم عليه من كل حدب وصوب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.