شعار قسم مدونات

في زمان النكبات.. هل يشد بعضنا بعضا؟

سيدة سورية فقدت 12 من عائلتها
سيدة سورية فقدت 12 فردا من عائلتها (مواقع التواصل الاجتماعي)

الكثيرون يتكلمون عن الزلزال، بعد الصدمة يأتي التفاعل، وأنا أقترح أن يلتفتوا أكثر وأكثر تضامنا مع قلوب تصيبها الدهشة وينعقد اللسان، بل تعجز اللغة عن التعبير وترتيب الكلمات مما نزل بها.

وقد كان لأحد هذين البلدين اللذين ضربهما زلزال قيل إنه بقوة 500 قنبلة نووية أرض تعرف للخراب لونا وللألم طعما وللفاجعة شكلا وتاهت في أدغال الشقاء، تريها الدنيا منذ أكثر من عقد مصيرا مكروبا بائسا مريضا يخلبه السقم حتى ينكشف العظم، ذلك أمام دهشة العالم كله، وها هو ارتجاج آخر يحدث للإنسان وللمسلم خاصة: هل لا يزال ذلك الجسد العليل يحتمل؟ هل يعقل ما حصل؟

وسرعان ما يزف إلينا الرد من قلب الحدث، فنسمع أفواها تلهج بالحمد بعد الفقد والدمار، وصدورا ربط عليها الصبر بعدما دكت دكا، أليس ذلك عين اليقين؟ أليس ذلك كنز المؤمن؟ أليس ذلك بستان المحن وفضل النوائب؟ هو نحت الذات حتى يصل إلى عظم الجوهر وصميم اللب.

إن المحن يا سادة هي من صنعت رجلا كغاندي حشد 400 ألف هندي في كلمة، ومناضلا مثل مارتن لوثر كينغ مغير وجه الأفكار، وشعبا كشعب فلسطين، صورة المقاومة.

حينما يكون للإنسان خيار حينها سنحتج، ولكن ما للإنسان من المصير إلا مصيره الأخروي، ذلك المصير الوحيد الذي بيد الإنسان فقط، وطوبى لمن يظفر به.

ترى البلاء يلعب معك لعبة الكر والفر، وفي كل فر تقول هذه الأخيرة، سبحانك اللهم تعلمنا وتربينا، ولا تكاد تستريح لهذه الفكرة حتى يعود

لا شك أحيانا أن نرى من الدنيا ما يخلب العقول ويخرس الأفواه ويشكل الفهم من مفاجآت وأعاجيب ومفارقات ومسارات أقدار غير متوقعة، تلك هي الدنيا عندما تتجلى للإنسان بهيئة الحجارة والحديد، تراها تقذف العوائق والمحن والمؤمن الخالص الصادق يرد في عناد "صبرا في بلاء" و"حمدا في شقاء" فتستحيل مقابلة هي بحق جوهر الجهاد وسر الوجود، وفي تلك اللحظة فقط يصح عود الإيمان وتنحت الشخصية على حجر وتثبت القدم، فلا أمل في زلل وتنضب التجربة، وكما يقول نجيب محفوظ "الحياة لا تعطي دروسا مجانية لأحد، فحين أقول إن الحياة علمتني تأكد أني دفعت الثمن"، وصدق من قال "إن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان".

ترى البلاء يلعب معك لعبة الكر والفر، وفي كل فر تقول هذه الأخيرة، سبحانك اللهم تعلمنا وتربينا، ولا تكاد تستريح لهذه الفكرة حتى يعود متجهما، هالكا في بطشه، مقبضا بكفي من حديد عصاه الغليظة، وفي نزاله الضار معك تصرخ في لوعة: لقد اكتفينا، لم أعد أحتمل أكثر، ويرد عليك من السماء هو وحده من يعلم مدى قوة تحملك والغاية من تدريبك القاسي المنهك للقوى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} (البقرة: 286)، {والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (البقرة: 177)، {واصبروا إن الله مع الصابرين} (الأنفال: 46).

لكن أليست الأيام دولا؟ فلماذا ينكس البصر وتذبل الجفون وتخر الهمة استكانا وإحباطا، ومن لم يذق طعم المحن باختلاف درجاتها؟ {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (آل عمران: 140) قانون أزلي وسنة أبدية، ومن يضمن سفينته تشق عرض البحر هادئة مطمئنة؟ ومن الذي امتلك أدوات تستبق المحن فتخبوها قبل أن يقدر حدوثها؟ إذن هما الصبر والمقاومة قانونان كانا سبب نزولنا لهذه الأرض وغايته، فلا تبحث كثيرا عن إجابات هنا وهناك حين يحل الكرب، ذلكما المفهومان هما عمود الأمر.

إن أعظم تشبيه لمعنى وجود الإنسان في هذا العالم وأكثرها نفاذا ودقة وإحكاما هو مماثلة رائعة وضعها الخالق عز وجل في آية كريمة تتحدث عن شجرة عظيمة {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} (النور: 35).

لقد كان بين خراب بلدان ونهوضها حلم، حلم يتيم يرضع من إمكانات العدم والأمثلة لا حصر لها، هذه البلدان الآن تصنع التاريخ وتكتب مصائر دول أخرى

إن كلمة "زيتونة" نجدها قد اشتقت من كلمة "زيت" الذي هو عصارة الثمرة، والعصارة بما هي الخلاصة والنتاج والزبدة وهي القصد والمراد والجوهر أيضا لا تستخرج إلا بعد ضغط وشد وكبس، وكلما اعتصرت الثمرة أكثر وسحقت أكثر في مسمار الصحافة من الآلة صار الزيت أنقى وأصفى وأجود، وقد نسبت هذه العملية إلى مادة جماد لا يعرف إحساسا ولا يعي عاطفة، فإذا تحولت هذه التجربة إلى النموذج الحي الذي يحس ويشعر له كيان وروح وإدراك وعواطف كان الوضع مختلفا للغاية ولكن تبقى النتيجة هي قيمة ورتبة ونبل، وتلك هي خلاصة الحياة إذا ما قارناها بشجرة مباركة عظيمة كشجرة الزيتون.

وكذلك هو الحال على صعيد الأمم، لقد كان بين خراب بلدان ونهوضها حلم، حلم يتيم يرضع من إمكانات العدم، والأمثلة لا حصر لها، هذه البلدان الآن تصنع التاريخ وتكتب مصائر دول أخرى، وكذلك أنت يا سوريا، لا بد أن يبزغ فجرك بعد ليل طويل كالح في سواده وانغلاقه، سيعود الحمام محلقا في سمائك معلنا انتهاء زمن الرماد وبداية عصر الضوء قريبا.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أقول: تبرعوا يا أهل الغيرة، أنفقوا يا عرب المروءة والكرم، إن أهلكم في الشام يناشدونكم في عزة وأنفة أن تلتفتوا إلى حالهم المكروب وأن تشد الأيد لمساعدتهم ومؤازرتهم في محنتهم، ولقد رأيتم بأعينكم وجوه عناصر فرق الإنقاذ إذا عثروا على ناج من تحت الركام تهش وتبش كأنهم وجدوا كنزا من كنوز هذه الدنيا، وأي كنز أثمن من النفس التي خلقها الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.