شعار قسم مدونات

زلزال تركيا.. الانتخابات وارتداد التحديات

Tens Of Thousands Dead After Earthquake Hits Turkey And Syria
زلزال تركيا خلّف خسائر مادية وبشرية هائلة (غيتي)

صحيح أن ضباب المأساة الإنسانية التي خلّفها زلزال تركيا وسوريا لم يتبدد بعد؛ ولكن تأمل المشهد والتعمق في مآلاته أمر ما زال يجوب أذهان الكثيرين، كون الجميع يدرك أن أكوام الركام المتكدسة ما زالت تحمل بين ذراتها الكثير من الأنباء التي ستنعكس حتما على الواقع السياسي التركي عموما ومشهد انتخاباته المقبلة على وجه الخصوص.

لقد شهدت تركيا الحديثة أحداثًا وفواجع عديدة، يمكن الإشادة أثنائها بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية التي ظهرت في مواقف معارضتها السياسية إبان هذه الكوارث؛ حيث دأبت على تحييد المحرك السياسي لأفعالها فترة تلك الأحداث وفعّلت الحس الوطني المسؤول بتلاقيها مع الحكومة في أهمية تجاوز الظرف الوطني بمسؤولية مطلوبة لبلسمة الجراح وإعادة الاستقرار وتطبيع المناخات في مختلف البيئات، إلا أنها هذه المرة ظهرت وكأنها ما زالت مخدرة بأفيون الانتخابات المقبلة، ما يظهر تعاظم مستوى إدمانها على حلم إسقاط أردوغان.

وكذلك سيطرة هذا الحلم على وعيها لينعكس بهذه الطريقة في سلوكها السياسي والاجتماعي، فهي اليوم لا تتورع عن استخدام نكبة الأتراك سُلّما لامتطاء نظام حكمهم والسيطرة عليه، ما يعتبره الكثيرون عدم إدراك لحساسية اللحظة ومتطلباتها الوطنية، ولكونها بذلك تفت العضد الوطني المنشغل بهموم الناس والعامل ميدانيا بكل قوته لتقليل خسائر الكارثة عبر إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فيرى هؤلاء أن المعارضة لم يحالفها التوفيق في معرض ردها على مشاهد الزلزال الكارثي، حيث انبرى بعض رموزها للطعن في أداء الحكومة ولتظهر بصماتها جلية في توهين الحالة المحفوفة بالموت والتي ما زالت منغمسة بالركام في حين كان المتوقع أن تُرى هذه البصمات بغزارة في ميدان الإغاثة.

رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو ظهر مدعيا أن بلديته هي من أطفأت حريق مطار إسكندرون المرافق لكارثة الزلزال ليتضح لاحقا أن بلديته شاركت رمزيا بسيارة واحدة في محاولات إطفاء حريق مهول أرهق أجهزة الدولة المختصة

يذهب العديدون لتصنيف تحرك المعارضة خارج سياقات الوعي الوطني والمسؤولية الأخلاقية، كونه يمس مشاعر 20 مليون شخص من أبناء جلدتهم تضرروا مباشرة من الكارثة، ولكونه لا يعدو أكثر من مجرد محاولة منها لتسجيل نقاط انتخابية استباقية، والمحاولة بحد ذاتها في هكذا ظروف ستكون حتما بمثابة مغامرة قد تتحول في أي لحظة لقفزة مجنونة بالهواء أو قل انتحارًا سياسيًّا لم يكن متوقعًا قياسًا على سابق عهدها وأدائها السياسي.

فقد صرح زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليجدار أوغلو بتحميل الرئيس التركي أردوغان مسؤولية الزلزال، وهاجمت نائبته "غويتش غوكشين" الرئيس التركي، وقالت: "لن نعترف بقوانين الطوارئ لو أسيء استخدام سلطاتها"، ليعود كمال كليجدار أوغلو ويتهم الحكومة بالفشل في التعاون مع السلطات المحلية، وإضعاف المنظمات غير الحكومية التي من شأنها المساعدة.

ثم يظهر بعدها مع زعيم الأكراد في ديار بكر المتضرّرة من الزلزال، والتي تعدّ المحافظة الوحيدة التي لم تصوّت لتحالف أردوغان في انتخابات عام 2018، فيما لم يظهر في مناطق منكوبة أخرى ما يدلل على أن تحركاته وتصريحاته محكومة بهواجس الانتخابات والكسب السياسي، وقد آثرت زعيمة حزب "الخير" القومي ميرال أكشينار الانتظار 72 ساعة لتجنّب أن تكون عقبة أمام جهود الإنقاذ حسب قولها.

فيما ظهر رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو مدعيا أن بلديته هي من أطفأت حريق مطار إسكندرون المرافق لكارثة الزلزال ليتضح لاحقا أن بلديته شاركت رمزيا بسيارة واحدة في محاولات إطفاء حريق مهول أرهق أجهزة الدولة المختصة، وليعيد ذلك للأذهان ذهابه في رحلة مع أصدقائه أثناء حرائق إسطنبول قبل عامين، مثيرا بذلك انطباعا متجددا عن شخصية مستهترة بمصالح الجمهور.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -68 عاما- قاد اجتماعات جهود الإنقاذ بنفسه آمرا بالإسراع في جهود الإنقاذ والإغاثة، داعيا المجتمع الدولي لتقديم العون والمساعدة أمام كارثة هي الأكبر في تاريخ الجمهورية وفي المنطقة

تظهر هذه المواقف في وقت دمر الزلزال 11 ولاية تركية، قاتلا ومصيبا ما يزيد على 140 ألف تركي حتى الآن، ليتضح في الأثناء أن الشعب التركي لم يتجرع هذه المواقف واعتبرها الكثيرون متاجرة سياسية بمعاناة المكلومين، فانبرت الألسن حدادا على تغريدات كمال كليجدار أوغلو في تويتر التي تروج اتهاماته للحكومة بالتقصير والتقاعس ليرد الجمهور مطالبا إيّاه بالصمت ومتهمينه بالتخاذل عن غوثهم.

وفي هاتاي معقل حزب الشعب الجمهوري الانتخابي وقفت قبضات أهالي المنطقة متأهبة أمام سيارة لنواب من الحزب لطردهم من المنطقة رغم أنهم كانوا قد انتخبوهم سابقا، في ردة فعل عفوية تحمل الكثير من الدلالات، كما ظهر الكثير من الفيديوهات لمواطنين أتراك يقاطعون إعلاميي المعارضة أثناء وجودهم في المناطق المنكوبة بعبارات تتهم المعارضة بالتخاذل واللامسوؤلية خصوصا مع ما حملته تغطية هؤلاء الإعلاميين للكثير من التوظيف السياسي والمبالغات غير الدقيقة لصالح الأحزاب التي تمتلك قنواتهم.

في المقابل، فقد قاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -68 عاما- اجتماعات جهود الإنقاذ بنفسه آمرا بالإسراع في تعبئة كل المصادر المتوفرة داعيا المجتمع الدولي لتقديم العون والمساعدة أمام كارثة هي الأكبر في تاريخ الجمهورية وفي المنطقة، معلنا حالة الطوارئ في المناطق المنكوبة لمدة 3 أشهر، ثم وجّه وزراءه لمغادرة إسطنبول والانتشار في المناطق المنكوبة، وليمضي أردوغان أيام الكارثة متابعا وموجها ومتفقدا للمدن المنكوبة.

كما وجّه الحكومة لتخصيص 100 مليار ليرة كمرحلة أولى توضع تحت تصرف مؤسسات الدولة للمساعدات الطارئة ولأنشطة دعم مناطق الكارثة، وأعلن بنفسه عن منح 10 آلاف ليرة تركية لكل عائلة متضررة، كما خيّر المتضررين بين الإقامة في 54 ألف موقع للإيواء أقامتها الحكومة في مناطق الزلزال أو الانتقال للفنادق والمرافق والنُزل في المدن الأخرى، كما اتخذ قرارا بتعليق العملية التعليمية لفترة محددة ليتسنى للدولة استخدام مرافقها في جهود الإغاثة، وظهر أردوغان واعدا بإعادة إعمار المباني خلال عام كحد أقصى، معبرا بذلك عن قيادة قوية واعية وواضحة في توجهاتها وإجراءاتها.

أردوغان حظي باستقبال حار من الأهالي في عدة مناطق، إذ أظهرت لقطات مصافحات المواطنين له وقدومهم نحوه والتفافهم حوله في زياراته التي تقدمت في إحداها مسنة لمعانقته

ميدانيا، فقد جنّد الرئيس التركي مختلف القوى الأمنية والعسكرية للمشاركة في عمليات الإنقاذ، واستنفر كل الإمكانات والأجهزة المختصة كما شاركت طائرات مسيّرة في العمليات، ورغم أن المناطق المتضررة من الزلزال تمتد إلى نحو 500 كيلومتر، الأمر الذي يصعب إيصال المساعدات إليها جميعا، إضافة لتعرض العديد من طرقها لأضرار معيقة، مما أحدث صعوبة بالغة واجهت فرق البحث والإنقاذ في الوصول المباشر إليها، ناهيك عن ما يسببه حجم الدمار وكميات الركام في المنطقة من إعاقة لعمليات الإنقاذ، فإن الجهود أثمرت عن إنقاذ ما يزيد على 8 آلاف مواطن.

ويحظى أردوغان بعد ذلك، باستقبال حار من الأهالي في عدة مناطق، إذ أظهرت لقطات مصافحات المواطنين له وقدومهم نحوه والتفافهم حوله في زياراته التي تقدمت في إحداها مسنة لمعانقته وذرفت الدموع على كتفه، كما كانت الاستجابة الشعبية لحملات جمع التبرعات مبهرة إذ وصلت لـ 5 مليارات دولار في أول ساعات، ما يؤشر لثقة الجمهور وارتياح نسبي من الشارع التركي تجاه تحرك الدولة ورأسها.

وفي معرض تفقده هاتاي المدينة التي دمرها الزلزال تطرق أردوغان لهجوم المعارضة متحدثا إلى الإعلاميين: "لا أريد أن أمنح الفرصة للاستفزازات، لا يجب أن تمنحهم وسائل الإعلام الفرصة، الآن هو وقت الوحدة والتضامن"، مؤكدا بذلك على وعيه وإدراكه لأولويات اللحظة الوطنية، مظهرا كارزميته وزعامته الوطنية في هكذا ظروف فاجعة.

وبالمقارنة مع التقييم السيئ لردة فعل الحكومة التركية التي كانت تقودها المعارضة الحالية في زلزال 1999، فالاختلاف من حيث سرعة الاستجابة وعظم جهود الإغاثة وفعالية إدارتها في ظروف عصيبة وقاسية مع الأخذ بعين الاعتبار فوارق حجم الكارثتين، يمكننا القول إن الرئيس التركي سجل مجددا نقاط تفوّق لصالحه ستنعكس تلقائيا على الحالة السياسية القائمة والمقبلة.

إدراك معطيات اللحظة وأبعادها وسرعة الاستجابة لمتطلباتها قد يسهم في تحويل المحنة إلى منحة خصوصا إذا ما تزامنت مع بصيرة سياسية محكومة بمنظومة قيم إنسانية، ولعل من ميزات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المعهودة قدرته على القراءة الإستراتيجية في اللحظات الفارقة، ومهاراته في الإدارة التكتيكية، من الاحتواء ابتداءً فالتحكم والتوظيف انتهاءً؛ إذ ليس من السهل أن تمر سقطة المعارضة هذه على حنكته السياسية وهو الخبير في سيكولوجية الجماهير، ناهيك عن كارزميته الظاهرة جليا للمواطن التركي في إدارة الكارثة وحضوره اللافت على مدار لحظاتها الأمر الذي يدحض وحده مزاعم المعارضة، ليتعزز حضور أردوغان كقائد وطني طليعي قادر على مواجهة التحديات العظمي.

المنطق سيدفع القيادة التركية باتجاه تأجيل الانتخابات جزئيًّا بسبب التحديات اللوجيستية التي يتطلبها جمع الأصوات من الأقاليم المدمرة، بحيث يضمن هذا التأجيل الجزئي مساحة ضامنة لمشاركة مواطني المناطق المدمرة

يعتبر الكثيرون أنّ الانتخابات في مايو/أيار باتت غير واردة بعدما حل بالبلاد من كارثة عميقة التأثير، لينطوي تأجيل الانتخابات على جملة من الفرص والتحديات لمجل مكونات الطيف السياسي التركي بلا استثناء، إذ إن التأجيل يمنح المعارضة مساحة زمنية جديدة لتستقر على مرشحها بعد أن فشلت بذلك رغم محاولاتها التي استمرت لأكثر من عام، ولكنه في الوقت ذاته قد يعطي لأردوغان مساحة أيضا لتسجيل إنجاز في ملف إعادة الإعمار والتعويضات للمتضررين ما سيؤثر حتما على توجهاتهم الانتخابية، وكون المعارضة لم تُظهر انسجاما وتنسيقا وتوافقا بين أطرافها إلى الآن، فمن الوارد أيضا أن تتسع مساحة الخلافات بين مكوناتها على المرشّح والأدوار التي سيؤديها كلّ حزب بعد التأجيل في ظل تطورات المرحلة اللاحقة غير واضحة المعالم، كما أن الإبقاء على موعد مايو/أيار أو تأجيله لما بعد يونيو/حزيران يوفر مساحة مشاركة تصويتية أكبر كون يونيو/حزيران يتزامن مع إجازات وأعياد الأمر الذي يراه التحالف الحاكم يصب لصالحه.

معضلة أخرى يجب النظر إليها بعين الأهمية تتمثل في منع قانون الانتخابات التركي للمواطنين من المشاركة في الانتخابات إذا كانوا قد غيّروا عناوين سكنهم قبل موعد الانتخابات بمدّة تقل عن 3 أشهر، وهو ما سينطبق حتما على مجمل المواطنين المتضررين من الزلزال الذين تمثل نسبتهم ما يقارب الـ20% وتعتبر غالبية مناطقهم مراكز ثقل انتخابي لحزب العدالة والتنمية، باستثناء هاتاي وأنطاكيا اللتين تعتبران من معاقل حزب الشعب الجمهوري والذي سيتفق حتما مع العدالة والتنمية على حق هؤلاء في التصويت.

بالنظر إلى ما تقدم نجد أن المنطق سيدفع القيادة التركية باتجاه تأجيل الانتخابات جزئيا بسبب التحديات اللوجيستية التي يتطلبها جمع الأصوات من الأقاليم المدمرة، بحيث يضمن هذا التأجيل الجزئي الحفاظ على حق أردوغان بالترشح لولاية ثالثة وفق نصوص الدستور، ويوفر في نفس الوقت مساحة ضامنة لمشاركة مواطني المناطق المدمرة، ويغني التحالف الحاكم عن الذهاب لمسار توافق قد يتسم بالتعقيد في ظل المواقف العدائية التي تنتهجها المعارضة مؤخرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.