شعار قسم مدونات

العالم المتحضر يفقد شرفه أمام محنة الزلزال

عمليات الإنقاذ من قبل حسن وزملائه في فريق الدفاع شمال سوريا(خاصة)
عمليات الإنقاذ من قبل فريق الدفاع المدني شمالي سوريا (الجزيرة)

لم تنقطع صرخات العالقين بين الحجارة والركام واستغاثاتهم بعد أن انهارت المباني الثقيلة على أجسادهم الطرية، كما انقطعت أنفاس من قضى نحبه فورا في زلزال السادس من فبراير/شباط 2023. مضت الدقائق الأولى مرعبة ثقيلة كأنها أيام طوال عليهم وعلى أحبابهم وكل من سمعهم، بل علينا أيضا نحن الذين ابتعدنا عنهم آلاف الكيلومترات في مشارق الأرض ومغاربها، ثم مرت الساعات والأيام والليال ونحن في انتظار وصول الآليات لترفع عنهم ما يخنقهم ويخنقنا.

بعد أيام عريضة انقطع منهم الأنين وانقطع عنا أي أمل بصدق الدعوات الإنسانية للعالم المتحضر في النجدة لأجل القيم الإنسانية المجردة عن أي اعتبارات مصلحية وسياسية، أما أولئك المزلزلون الذين اعتادوا على النكبات في سوريا، فقد تركوا من فورهم تلك الآمال والأحلام تعبث في مقرات الأمم المتحدة وهيئاتها؛ فقد كانوا يحفرون بأظافرهم جبالا من الأبنية ليستنقذوا روحا قال الله تعالى فيها (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا) (المائدة 32). ومع كل نفس تنجو بمساعدتهم يعرس الناس من حولهم بتكبير وتهليل وتحميد في لحظة فرح عارم تنسيهم لوهلة صدمة الفاجعة التي تحيط بهم من كل جانب.

الدول الكبرى امتنعت عن إدخال آلة واحدة للشعب السوري المنكوب في حسابات سياسية رخيصة تتاجر بدماء الناس للوصول لغاياتها ومصالحها المحسوبة بدقة قبل كل شيء وبغض النظر عن أي قيم أخلاقية وإنسانية

"ما حك جلدك غير ظفرك"

في كل مرة يثبت العالم المتحضر تخلفه عن القيام بواجبه الإنساني الذي يتحتم عليه في اللحظات الحرجة، لقد أيقنا للمرة الألف أنه لا يخرجنا من محنتنا إلا أن نستعين بالله تعالى ونتداعى لأخوتنا المنكوبين تداعي الجسد الواحد، وهذا ما كان. فرغم التصريحات الأممية التي تطير بها وسائل الإعلام حول المساعدات العاجلة والإغاثة للمتضررين فإن شيئا منها لم يصل، وسجلت فرقة الإغاثة المصرية الصدارة في نجدة عفوية متواضعة، لتكون بعدها أولى المساعدات وصولا حملات الإغاثة الشعبية من مختلف الدول العربية، إضافة إلى فزعة السوريين أفرادا وجماعات في دول الاغتراب والمنفى وفي الداخل، فكانت حملة المساعدات التي أرسلتها عشائر دير الزور وحدها أطول من قافلة الأمم المتحدة مجتمعة!

لم يكن المجتمع الدولي عاجزا عن إرسال فرق الإنقاذ والآليات المتطورة لإنقاذ أرواح الناس في كارثة طبيعية هي الأعنف منذ عقود خلت، وهو الذي قطعا شوطا كبيرا في التقدم العلمي والتكنولوجي، وطوّر آليات قادرة على تخفيف آثار هذه الكوارث ومعالجتها، إلا أن الدول الكبرى امتنعت عن إدخال آلة واحدة للشعب السوري المنكوب؛ في حسابات سياسية رخيصة تتاجر بدماء الناس للوصول لغاياتها ومصالحها المحسوبة بدقة قبل كل شيء، وبغض النظر عن أي قيم أخلاقية وإنسانية، لتثبت بما لا يدع مجالا للشك أن قادة الحضارة المادية الذين صدّعوا رؤوسنا بالإنسان وحقوقه، لا يستنفرون لهذا الإنسان إلا لاستخدامه وسيلة وذريعة لنهب الدول والشعوب المسحوقة.

لا يخرجنا من هذه المحنة إلا أن نوقن بأن هذه الدنيا ليست دار قرار أو عدل وحساب لكنها محل اختبار، وأن الآخرة هي دار المستقر واللقاء، وأن من أحبه الله ابتلاه ليرفع درجته ويضاعف أجره إن صبر

لكل أجل كتاب

تعطينا سيول الصور والفيديوهات المتدفقة من مكان الحدث دروسا وعبرا لا نستطيع معها إلا أن نخشع لله تعالى صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلى، ونستشعر معها كم نحن ضعفاء وعاجزون أمام جبروت الله تعالى وقوته، وكم نحن متعلقون بلطفه ومحتاجون لرحمته، ونوقن معها أن من رزقه الله تعالى عمرا لن ينقص من عمره شيء ولو كان رضيعا وحيدا يفترش الركام البارد ليالي وأياما من دون رعاية وغذاء، فإذا ما أحاطته ألطاف الله تعالى وعنايته فإنها تخرجه حيا مبتسما كأنه لم يصبه ضر تنفيذا لمراد الله تعالى وقدره، وأن من حانت منيته فسيأتيه الموت وإن كان في بروج مشيدة، لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عباس: "واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُروك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفَ) سنن الترمذي.

لا يخرجنا من هذه المحنة إلا أن نوقن بأن هذه الدنيا ليست دار قرار أو عدل وحساب لكنها محل اختبار، وأن الآخرة هي دار المستقر واللقاء، وأن من أحبه الله ابتلاه ليرفع درجته ويضاعف أجره إن صبر، وأنّا لن نفر من قدر الله إلا إلى قدره وحده مسبب الأسباب ومالك الأمر، وأننا مكلفون محاسبون بالأخذ بالأسباب لنتجنب الابتلاء أو نتجاوزه، ولنتذكر في كل حال وبعد كل ما حصل أن الله تعالى تعبدنا أن نعمر هذه الأرض ونكون خلفاءه فيها لا يصرفنا عن ذلك زهدنا فيها ولا ينسينا انهماكنا فيها أن مردنا إلى الله وحده، فنحسن النظر فيها ونعمل على دراسة سننها وقوانينها لنؤدي المهمة التي كلفنا بها على الوجه الذي يرضيه، ونجاهد في سبيل ذلك من دون يأس أو قنوط.

ورحم الله تعالى الإمام محمد الغزالي الذي يقول "إنني أريد إفهام المؤمنين أن الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله جهاد مبرور، وأن الفشل في كسب الدنيا يستتبع الفشل في نصرة الدين، وأن الواجد الذي ينزل عمّا عنده خير من المفلس الذي لا ينزل عن شيء لأنه لا يملك أي شيء، إن السلبية لا تخلق بطولة لأن البطولة عطاء واسع ومعاناة أشدّ".

وفي اللحظة التي نبني فيها بلدنا بسواعدنا مستعينين بالله تعالى مستغنين عن المتاجرين بدمائنا سنرسل لأولئك القلقين في مدرجات الأمم المتحدة حبات المورفين التي سنعدها خصيصا لقلقهم المستمر الذي لا يجدي نفعا ولا يسكت وجعا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.