شعار قسم مدونات

الطوفان والتاريخ!

أسر جنود إسرائيليين في بداية انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من الشهر الماضي (مواقع التواصل الاجتماعي)
أسر جنود إسرائيليين في بداية انطلاق عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، تشرين الأول 2023 (مواقع التواصل الاجتماعي)

اطمئن يا دكتور، فلست" رائج" حتى الآن. وقد تصبح في الساعات القادمة. تسميتك الطرف الآخر، كل الطرف الآخر، شعوبا وقبائل "بأصحاب شعارات رنانة" حكم فيه من الخفة والهزء والهشاشة ما يجعلنا نعتقد أن مطلقه جندي من حرس حاكم ظلامي في نهاية القرن الثامن عشر وليس دكتور من القرن الواحد والعشرون. إذ إن الحقائق التاريخية الكبرى التي يموت من أجلها شعب وتحملها شعوب كثيرة؛ لا تعامل بهذا الشكل الخفيف!

قال دكتور جامعي، وهو صوت يمثل خطا عربيا طويلا: "القضية ليست في المقاومة، بل بحفظ أرواح الناس وممتلكاتهم. وقرار الطوفان ليس عملا بطوليا. والذي لا تستطيع مجاراته، لماذا تصفه؟" أثارت هذه المنشورات غضبا واسعا على منصة فيسبوك. ما يدل على صحوة الشعوب ووقوفها في الجانب الصحيح من التاريخ الإنساني والأخلاقي.

إن النظر إلى قضايا من هذا النوع، تحتاج إلى إدراك وإحساس عميقين قبل كل شيء. وسرد حكاية 70 عاما من الويل والمرارة والنضال والشتات، ليس كسرد حكاية سيقان فاتنة جميلة مرت من الشارع قبل قليل.

ثمن الحرية غال، غال جدا. ثمنها، مليون شهيد قدمتهم الجزائر. وكل بلد قدم أعدادا كبيرة حينما قرر أن ينال حريته واستقلاله.

هل سيصل إليك هذا الرد؟ لا أدري. ولكنه عموما هو مجرد سطور سأجلبها من صفحات التاريخ وكتب السنون. قليل من الحقيقة، قليل من المنطق، وقليل من النواميس التي تجري على الجميع، في أي مكان أو بأي زمان. لا أعنيك به تحديدا بل هو رد ينطلق من جدليتك التي أثرتها، ثم يتوجه إلى هذا الصنف العربي السائل أمام صدمات التاريخ. والذي يشكل صوتا ضاجا ومضادا للحق والمظلمة الفلسطينية التاريخية.

استمع أو استمعوا لحكاية هذا العجوز: كهل، بدأ مقاومة القوات التي تستعمر بلاده وعمره 54 عاما. هبط من الجبل، لف حوله مجموعة كهول وشباب آخرين. حملوا بنادقهم، وقرروا بكل شجاعة وإدراك مواجهة إمبراطورية عالمية مزودة بأقوى وأعتى وأحدث الأسلحة في ذلك الزمن. كبد تلك الإمبراطورية خسائر فادحة، على مدى عشرين عاما من المقاومة في معارك مفتوحة وحرب عصابات، لدرجة أنه دفعها للاستعانة بإمبراطورين وقوات أخرى بأساطيلها وطائراتها ومدرعاتها وجحافلها. استخدمت تلك الإمبراطوريات الثلاث معه، أقذر الطرق وأبشعها، بحق أي من يثبت بأدنى دليل أنه من أتباعه ومؤيديه، وبحق مدنيين وقرى، معسكرات اعتقال جماعي، وحرق قرى بأكملها؛ لثنيه عن هدف البطولة من أجل حرية بلاده وكرامتها. وهو نفس السلوك الذي تستخدمه اليوم الدولة التي تحتل فلس. طلين العربية.

جلب الكثير من الهزائم والبطولات التاريخية، وهزم بالأخير: شنقه المستعمر في ميدان بأرضه وأمام الشعب الذي قاتل من أجله، وقد ناهز عمر ال 75 عاما. في تلك اللحظات يندفع قاتله ويعظم له سلاما مبجل!. كتبته بلاده وكل العالم بصحائف من نور بماء الذهب. وصار رمزا ملهما للأجيال من بعده حتى الأبد ويوم. هل عرفته يا دكتور؟ إنه أسد الصحراء. وللمعرفة أكثر، إن أردت، سل ويكيبيديا أو جوجل.

ثمن الحرية غال، غال جدا. ثمنها، مليون شهيد قدمتهم الجزائر. وكل بلد قدم أعدادا كبيرة حينما قرر أن ينال حريته واستقلاله. "للحرية الحمراء باب.. بكل يد مضرجة يدق" يقول شوقي.

هلا قرأت عن ثورة الهند، وفيتنام، والجزائر، والبوسنة والهرسك، واليمن، ومصر، وكل الدول التي تعرضت للاستعمار. لا شك أنك تعرف تلك النضالات والنتائج التي خلفتها على شعوبها. ولكن لا ندري ما دافع تلك الخفة التي تعاملت بها مع قرار أبطال المقاومة في فلسطين "المحتلة".

لم تحقق لذلك الشعب كل السلامات والاتفاقيات إلا مزيدا من التشريد والضياع وجرف المنازل ثم الاستيطان! إنه كيان لا يؤمن بأي حق للفلسطينيين.

إن كل فعل بطولي قاد في نهاية مطافه إلى انتصار خالد في كل التاريخ البشري. بدأ بأن قامت ثلة أو فرد "بلطم خد – كان حين فعل ذلك – غير قادر على مضاربته" الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. فعل الشيء ذاته في مجتمع يثرب. ولا شك في أنك ما زلت تحفظ جيدا ما درسته في الصف الأول الابتدائي؛ وماذا فعلت قريش- بعد ذلك – بأصحابه. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي سلكها كل بناء وإصلاح في كل التاريخ وهي التي سيسلكها البشر حتى النهاية.

كما أسلفت: إن النظر لقضايا النضال ذات الأمد الطويل من العناء والكفاح، يحتاج إلى إدراك وإحساس عميقين. كما قلت أنت "القضية هي الحفاظ على حياة الناس وممتلكاتهم". أي صناعة السلام. وأي سلام تتصوره أنت سيأتي من تلك الوجوه؟ يبدو أن أنك لا تعرف الكثير عن تلك القضية ومالاتها التاريخية. لم يحقق لذلك الشعب كل السلامات والاتفاقيات إلا مزيدا من التشريد والضياع وجرف المنازل ثم الاستيطان! إنه كيان لا يؤمن بأي حق للفلسطينيين. هذه معلومة – سيادة الدكتور – صارت من بديهيات الشارع العربي. يحفظها الأطفال وفتيات التك توك.

إذا كان الدكاترة تجهل حقائق كهذه؟ فلا تسألوا: لماذا شعوبنا العربية تغرق في متاهات الحروب ودروب الضياع!

كتب لها "شاعر المرأة" نزار قباني العديد من القصائد. غنى من أجلها السكارى والمجانين وكل العالم الحر.. قتل في سبيلها أجيال وأجيال. وأفنيت فيها المنازل القديمة ودنست مساجدها، وهتفت شعوب الدنيا لتحيا..

وقال دكتور وناقد أدبي، أو عموم أصحاب هذا الصوت الزاعق في سرداب مظلم: الذي يسومك سوء العذاب، وأنت لست قادر عليه، صعر له خدك ليصفعك ويأخذ ما تبقى لك ومنك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.