شعار قسم مدونات

شيماء عادت لتحكي عن غزة

العودة الى المنزل ولو مدمرا قرب غزة خيار عائلات فلسطينية في ظل الهدنة
العودة الى المنزل ولو مدمرا قرب غزة خيار عائلات فلسطينية في ظل الهدنة (الفرنسية)

قبل خمسة عشر عاماً استضافت دار الفكر الثقافي في دمشق مجموعة من الأشخاص للحديث عن العدوان الإسرائيلي على غزة حينها. كان ذلك في إبريل/ نيسان 2009 ضمن أسبوعها الثقافي العاشر الذي أقامته الدار تحت شعار "القدس مسؤوليتنا جميعاً".

وكانت أول المتكلمات دكتورة غزاوية شابة اسمها شيماء شراب، عرضت للحضور صوراً عن غزة قبل الحرب وأثناء الحرب وبعدها. تحدثت شيماء عن قيامة قامت وعن آلة تدمير مرت لم تميز بين حجر أو شجر أو إنسان. عرضت صوراً مروعة لأطفال ونساء ورجال قُتلوا وشوهوا ولبيوت متهدمة ومساجد ومدارس.. شاهدنا ما يفوقه فظاعة اليوم بعد طوفان الأقصى.

اليوم يتكرر العدوان الإسرائيلي على غزة، وتتكرر معه صور القتل والدمار والموت، وتُسمعنا شيماء جديدة كيف أن الحياة هناك مستمرة، وأن أهل فلسطين مازال عندهم الرغبة بالحياة، ومازال عندهم القدرة على الابتسام واللعب والمرح، رغم الموت والدموع والآلام

لكن ما أثّر بي أكثر من أي شيء آخر ولم أستطع نسيانه من حديث الدكتورة وقتها، هو ذلك الانطلاق الذي تحدثت به، وتلك الابتسامة العذبة التي لم تفارق ثغرها طوال حديثها، وكأن كل ما رأته عيناها من تشويه وقتل ودمار جعلها ترى جمال الحياة أكثر.

أخبرتنا الدكتورة شيماء أنها عندما كانت تعود إلى بيتها بعد عملها الصعب جداً في المستشفى الذي كان يفتقر للكثير من الإمكانات والمكتظ بجموع كثيرة من الأطفال والنساء والرجال المصابين والشهداء، كانت تلعب مع إخوتها الصغار وتضحكهم وتضحك معهم! قالت شيماء: لا تستغربوا، لأنهم لو استطاعوا أن ينتزعوا منا رغبتنا بالحياة وقتها سينتصرون، أما ونحن نعيش حياتنا ولا نسمح لهم بتدمير دواخلنا فنحن منتصرون.

اليوم يتكرر العدوان الإسرائيلي على غزة، وتتكرر معه صور القتل والدمار والموت، وتُسمعنا شيماء جديدة كيف أن الحياة هناك مستمرة، وأن أهل فلسطين مازال عندهم الرغبة بالحياة، ومازال عندهم القدرة على الابتسام واللعب والمرح، رغم الموت والدموع والآلام، ومازال عندهم قبل كل هذا الإصرار والعزم على مقاومة المحتل بكل الوسائل المتاحة. لكن شيماء اليوم لا تتحدث فقط عن أهل فلسطين ولا أهل غزة وحدهم، بل تتحدث عن الشعوب التي دمر مقدراتها الاستبداد حامي إسرائيل، وحصرها في نطاق البحث عن الخلاص الفردي، بعد أن قمع ثوراتها بالحديد والنار والاعتقال. تتحدث عنهم لتقول إن رغبتهم بالحياة مستمرة، وإن دواخلهم مازالت عامرة بالأمل رغم كل ما مرّ بهم.

بعد طوفان الأقصى الذي كان خارج التوقعات الاستعمارية والاستبدادية، مثلما كانت ثورات الربيع العربي خارج تلك التوقعات، سيكون على الشعوب أن تدرك أن الحلول الاستسلامية التصالحية مع القوى الكبرى وربيبتها إسرائيل ستتسارع

معركتنا مستمرة مع الاستبداد

كثيرون يدرسون ما يكلفه الصراع العربي الإسرائيلي وما أدى إليه من مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية على مستوى الوطن العربي عموماً، ويتجاهلون أصل المشكلة الأساس وهو وجود الاستبداد صنيع الاستعمار في بلادنا وما سببه من كوارث اجتماعية وسياسية واقتصادية وفكرية، ودراسة ما نتج عنه من لامبالاة وغياب للفاعلية الاجتماعية، وهو ما أوصل مجتمعاتنا إلى مرحلة آمنت فيها بضعفها الأزلي وعدم قدرتها على النهوض إلا بتحقيق معجزة، خاصة بعد نتائج التحركات المضادة للربيع العربي، التي أكّدت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الاستبداد هو حامي إسرائيل الأول والأهم، وأنه الذراع الذي تستخدمه الدول القوية للسيطرة على الشعوب واستنزاف خيراتها.

بعد طوفان الأقصى الذي كان خارج التوقعات الاستعمارية والاستبدادية، مثلما كانت ثورات الربيع العربي خارج تلك التوقعات، سيكون على الشعوب أن تدرك أن الحلول الاستسلامية التصالحية مع القوى الكبرى وربيبتها إسرائيل ستتسارع، وستظهر حلول تسعى لإقناع القوى الكبرى باسبتدال دولة إسرائيل الوظيفية بدولة وظيفية تحقق مصالح القوى المسيطرة في المنطقة وتقوم مقام إسرائيل في ذلك، ولعل ما نراه من تعامل بعض الدول مع قضية فلسطين وامتثالها للأوامر الاستعمارية ومشاركتها في حصار الشعب الفلسطيني إلا مظهر يدل على هذه الرغبة.

في ميزان القوى الراهن لا يوجد حل إلا لصالح القوى الكبرى، وبالتالي سيكون لصالح إسرائيل، فالمفاوضات التي تجري اليوم لترتيب الوضع في غزة بعد انتهاء الحرب ستنتج ترجمة لموازين القوى الحالية أو تخريجات لها، لأن المفاوضات لا تولّد حلولاً بل تطبيقاً لحلول، وميزان القوى الحالي ليس لصالح الشعوب المقهورة، وبالتالي لن يؤدي لتوليد حلول لصالح فلسطين أو لصالح قضايانا العادلة عامة، لذلك فإن التمسك بالحياة وبالأرض والاستمرار بالعمل على إزاحة الاستبداد هو فعل  مقاومة لاستغلال القوى الكبرى، ومقاومة لاستمرار تدهورنا وخضوعنا، بالتوازي مع عملنا على تفعيل مجتمعاتنا للتخلص الكامل من كل المظاهر التي تجعل من العرب والمسلمين متخلفين حضارياً وواقعين في مرمى الطمع الغربي الاستعماري.

طلبت شيماء قبل سنوات دعم عزة وتجهيز العدة لنصرة فلسطين، وقالت إن في يد كل واحد منا سلاح وما عليه إلا أن يستعمله، كل واحد منا لديه إمكانات يجب أن يستغلها، ففلسطين مسؤوليتنا، وقضيتها ليست منفصلة بحال من الأحوال عن قضايانا الحضارية الأخرى، واليوم تكرر شيماء الطلب، وتعود لتذكرنا بواجبنا الذي إن نسيناه أو تناسيناه فإننا لن ننجو بأي حال من الأحوال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.