شعار قسم مدونات

عبد الرحمن الداخل.. نظرة نفسية إلى داخله

عبد الرحمن الداخل.. صقر على جبال الأندلس
تمثال عبد الرحمن الداخل.. صقر على جبال الأندلس (الجزيرة)

كان عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) أحد القلائل الذين نجوا من سيوف بني العباس بعد أن انهارت دولة الأمويين في الشام، وأعمل بنو العباس السيف في رقاب أبناء عمومتهم من بني أمية.

كان هذا الأمير الصغير الأقوى شكيمة على مدافعة الخطب والتصدي لفجأة الانهيار، والفرار من مذبحة الشام، والسعي لاستعادة الملك السليب. فكان الموكب الذي خرج به عبد الرحمن من دمشق المنكوبة بدماء بني أمية إلى الأندلس توليفة من الآمال والمخاوف، ولم يكن هذا الموكب سوى فرسين على متنيها أمير هارب وغلام وفي، ونفس تواقة إلى المجد، وزاد قليل لا يمكن أن يوازيه زاد الطموح الذي يحمله شاب لا يزال على مناكبه ريش كثير من عامه الثامن عشر.

خرج الموكب الصغير، تاركا خلفه زوجة شابة وابنا صغيرا، في عمر الأحلام وبراءة النسيم، وعبر الأمير الشامي النهر سباحة، ولم يكن بين شاطئيه من البعد أكثر مما بين الحياة والموت، بين عيني رجل يطارده أعداؤه، ويرنو إلى ملك يلوح خلف التلال.. إلى الأندلس.

رغم سنوات الأسى ورواسب المحنة التي انغرست في قلب عبد الرحمن الداخل عدة سنوات، فإن رواسخ الجمال وعشق الحدائق والنخيل لم يمت ولم ينضب معينه في فؤاد ذلك الشاب الدمشقي

أقام ملكا بعد انقطاعه

عبر الشاب الدمشقي البحر وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا مع خادمه بدر، وجدد هناك، في أقصى الغرب، ملك بني أمية، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا عظيما، بعد انقطاعه، وأسس، بحسن تدبيره وشدة شكيمته، في الأندلس دولة بعد أن مزقتها حروب القبائل ونهشتها أطماع شيوخها، متسلحا بأخلاق الإمارة التي تربى عليها في رصافة جده هشام، بعد أن آثره هشام في النصح والتوجيه، دون إخوته، وأعده للنوازل وادخره ليصون إرث آبائه وأجداده.

ألم الغربة ووجع الوحدة

ورغم سنوات الأسى ورواسب المحنة التي انغرست في قلب عبد الرحمن الداخل عدة سنوات، فإن رواسخ الجمال وعشق الحدائق والنخيل لم يمت ولم ينضب معينه في فؤاد ذلك الشاب الدمشقي، فها هي نخلة الرصافة بقامتها الفارعة وعثاكيلها المفعمة تثير لواعج الشوق في فؤاد الأمير، وتعيد نسج قوافي الأسى بروي من رطيب الأدب، فقال:

تبدت لنا وسط الرصافة نخلة.. تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل

فقلت شبيهي في التغرب والنوى.. وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأت بأرض أنت فيها غريبة.. فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

ولم تزل هذه النخلة الفارعة تستدر عاطفة الأمير كلما استظل بسعفها اللألاء، فإذا هو يخاطبها مرة أخرى:

يا نخل أنت غريبة مثلي .. في الغرب نائية عن الأصل

فابكي، وهل تبكي مكيسة .. عجماء، لم تطبع على خيل؟

لو أنها تبكي إذن لبكت .. ماء الفرات ومنبت النخل

الحنين إلى الشام، إلى الرصافة الأموية، وهو الذي بنى رصافة في الأندلس مثل رصافة جده هشام.

الحنين إلى الشام.. إلى الملك السليب

ولا يزال الحنين يخلب قلب الأمير، وتهيج الذكرى له خطوات كل راكب ييمم الشام، فيحمله أشجان نفس أضناها الشوق، وقضت يد الأيام أن لا عودة لها إلى حيث نيطت عليها تمائم الطفولة أول مرة:

أيها الراكب الميمم أرضي.. أقر من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي كما علمت بأرض.. وفؤادي ومالكيه بأرض

قدر البين بيننا فافترقنا.. فعسى باجتماعنا الله يقضي

نريدها شاما ثانية

إنه الحنين إلى الشام، إلى الرصافة الأموية، وهو الذي بنى رصافة في الأندلس مثل رصافة جده هشام. وقال مخاطبا الرسول الذي بعثه يحضر أهله من الشام بعد استقرار حكم الأندلس تحت إمارته.

"… إذا وصلت الشام، فتنشق هواءها عني، واملأ عينيك من فراتها وجنانها، ولا تعد بأهلي معك إلا وقد جمعت لنا غرائب الغروس وأكارم الشجر، والنوى المختارة، لنزرعها هنا في كل مكان من الأندلس.. نريدها شاما ثانية..".

لكن هذا كله لم يغنه عن الشام وذكرياته فيها فظل الحنين إليها متوقدا متجددا إلي الشام وساكنيها، فقال أخيرا: "لو كان للمرء أن يختار موضع قبره، ما اخترت غير الشام".

فقد عينه خلال رحلته وتنكر له القريب ورافقه الخادم البعيد فاستوى وخادمه في الرحلة فصار لا يعرف أيهما الأمير وأيهما الخادم..

بين ملك سليب ومجد تليد

أفنى الداخل حياته وأنفق عمره بين ذكرى ملك سليب وتوق إلى مجد تليد وبناء دولة بني أمية في الغرب بعد أن تهاوى عرشها في الشرق، كان دون هذا البناء وهذا السعي فت الأكباد ومفارقة الأهل والبلاد والأولاد ومقارعة الفرسان ومطاردة الخصوم ووأد الفتن وصراع القبائل، وذكرى مصارع قومه ومقتل أهله وذبح أخيه أمام عينه على يد بني العباس.

وهو الذي فقد عينه خلال رحلته وتنكر له القريب ورافقه الخادم البعيد فاستوى وخادمه في الرحلة فصار لا يعرف أيهما الأمير وأيهما الخادم.. ثم تآمر عليه بعض أهله في الأندلس فأصابه الخوف مما هو آت.. وفارق الحياة وفي نفسه قلق على حماية الدولة التي أسسها وأنشأها بعد طول تناحر بين القبائل.

هم الإمارة ونزاع أهلها عليها

وكان مما قاله الأمير: "يجب على السلطان حفظ الدولة من أن يتنازعها أهل بيته وكأنها غنيمة حازتها القبيلة في إحدى غزواتها أو كأنها ضيعة أو حمى يتنازعون على ميراثه، ما هكذا تكون الدول، وما هكذا الملك! نعم إنها دولة بني أمية في الأندلس، ولكنها دولة أولا، يحكما رجل واحد من بني أمية، يعقبها لمن هو جدير بحفظها من ولده. لا بستان مشاع للقبيلة. الدولة أولا".

ولما كثر المتآمرون على الأمير ودولته وتمرد عليه بعض أهله؛ قال الأمير، بعد تمرد ابن أخيه عليه، "لم يخطر في بالي قط أن العدو القادم سيكون من أهل بيتي، والآن إذا تساءلت من أين يأتي العدو القادم، أثار السؤال رعبي! لا رعب الخائف، بل رعب المشفق المستوحش. من التالي؟ ولدي سليمان أم ولدي هشام؟!

 

لم يكن عمر عبد الرحمن طويلا، لكنه كان عريضا متسعا لأحداث ووقائع لا تزال ترويها صفحات الأيام، وألسنة التاريخ، ولم يتجاوز عمره 59 سنة

وترجل الفارس

عاش عبد الرحمن سنوات قلائل في سطوة الإمارة الأموية في الشام ثم ما لبث أن عاش سنوات ست طريدا شريدا يخشى سيوف القتل وعيون الغدر، وبعد أن عبر البحر ووطأ الأندلس لدخولها، أمضى ما بقي من عمره في توطيد الحكم الأموي الناشئ في المغرب بعد أفول نجمه وغروب شمسه في المشرق.

وفي سنة 172 للهجرة أطبق الصقر القرشي عينيه، وجمع جناحيه في كفن النهاية، ليدفن في قرطبة التي وهبته جلالها ومحبتها، وبقي في ذاكرة الأيام عنوانا وعلامة فارقة على العزيمة والإصرار.

لم يكن عمر عبد الرحمن طويلا، لكنه كان عريضا متسعا لأحداث ووقائع لا تزال ترويها صفحات الأيام، وألسنة التاريخ، ولم يتجاوز عمره 59 سنة، عاش منها 34 سنة ملكا في الأندلس، وست سنوات مطاردا هاربا بعد 19 سنة قضاها في رغد من العيش أميرا وابن سلسلة من الأمراء.

 

  • ملاحظة: فكرة هذا المقال وبعض من مادته مأخوذان من مسلسل صقر قريش للراحل "حاتم علي"، وهذا عربون جديد في محبته والوفاء إلى روحه في الذكرى الثالثة لرحيله، رحمة الله عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.