شعار قسم مدونات

شعر تحت أزيز الطائرات!

كتائب الشهيد عز الدين القسام خلال إحدى العمليات (الجزيرة)
في هذه المعركة تظهر نماذج سامية من البطولة والتضحية والفداء (مواقع التواصل الاجتماعي)

في واحد من المقاطع التي نشرتها المقاومة الفلسطينية في غزة، يظهر مقاوم وهو يستعد لإطلاق قذائف "الهاون"، باتجاه أماكن وجود قوات الاحتلال المتوغلة في غزة، وقبل أن يبدأ بإطلاقها، يلقي أبياتا عن مدينة "تل أبيب" المحتلة، ومما قاله لله دره:

سنغسل القدس من أوساخ أمتكم .. يا أمة الوسخ المطلي بالذهب

والتل تل أبيب سوف نتركها .. تلا من الردم في بحر من اللهب

بنيتموها بمال السحت عاصمة .. وليس يعصمكم منا سوى الهرب

ما لفت انتباهي، وهي سمة مشتركة للكثير من هذه المقاطع وخاصة تلك التي تتضمن إطلاق قذائف الهاون، أصوات طائرات الاستطلاع، وهو صوت يظهر بشكل واضح بل ومزعج للمشاهد، فكيف لمن هم في الميدان، ما يعني أنها قريبة جدا

لفتتني هذه الأبيات، وظننت أن المقاوم هو صاحبها، أو لشاعر من غزة على أقل تقدير، ولكنني كنت مدفوعا لمعرفة قائلها، وأردت التثبت قبل إعادة نشرها في حسابي في منصة إكس، من باب الأمانة أولا، ولكي أقرأ باقي القصيدة ثانيا، ولكني فوجئت بعد بحثي عنها، فقد وجدت بأن الأبيات للشاعر اللبناني إلياس فرحات، وهو من شعراء المهجر، وعاش في البرازيل، والقصيدة من ديوانه "الخريف" الذي صدر عام 1954، في مدينة ساوباولو البرازيلية.

نعم لقد لفتتني الأبيات، فكأنها كتبت اليوم، عن واقع نعيشه، وفيها من الإباء والوعيد للمحتل ما فيها، ومع معرفتي هذه التفاصيل، وما تضمنه المقطع فإني تعجبت من جملة من الأمور، أولها، أن المقاوم ينشدها قبل إطلاقه القذائف في وجه العدو، وهي أبيات لشاعر مغمور على الأقل لغير المتخصصين في الأدب، أو الشغوفين به، وهو ما ينم عن ذائقة رفيعة للمقاوم، واهتمام لافت بأدب المقاومة، وهو مقاوم يشتبك مع العدو، إلى جانب إلقاء هذه الأبيات بصوت طيب ولو كانت المقاومة موهته على عادتها في هذه المقاطع، للضرورات الأمنية.

أما ثاني ما لفت انتباهي، وهي سمة مشتركة للكثير من هذه المقاطع وخاصة تلك التي تتضمن إطلاق قذائف الهاون، أصوات طائرات الاستطلاع، وهو صوت يظهر بشكل واضح بل ومزعج للمشاهد، فكيف لمن هم في الميدان، ما يعني أنها قريبة جدا، وأن أعدادها ليست قليلة في سماء غزة ككل، وفوق المقاومين أنفسهم، ومع ذلك تراهم رضي الله عنهم، وهم يضعون القذائف الواحدة تلو الأخرة، وهم في ثبات وتؤدة، ولا حاجز يحميهم من الاستهداف، فهم في أرض فلاة لضرورة السلاح المستخدم، ونشاهدهم وهم يتلون (وما رميت إذ رميت)، أو يكبرون مع كل قذيفة، وصاحبنا هذا، بدء بالأبيات آنفة الذكر، وهي بكل تأكيد مشاهد لا يمكن تجاوزها، أو المرور عليها سريعا.

إن من مندوحة القول التأكيد بأن عناصر المقاومة من نسيج الناس، وقد أظهرت المعارك السابقة، بأن منهم العالم وأستاذ الجامعة، والمهندس، ومنهم كذلك أرباب الأسر والدعاة وأساتذة المدارس والعاملين الكرماء، والحرفيون النجباء، وغيرهم، فهم من الناس وإليهم، كنسيج غزة وفسيفساء أهلها، وربما يكون ذلك المقاوم المحب للشعر، أستاذا للغة العربية، أو متخصصا بالأدب، أو حتى شاعر، يخرج جواهر أدب المقاومة، ولو كتبها شاعر آخر مات بعيدا عن غزة بآلاف الكيلومترات.

إن بقي فعلنا فخرا بالمقاومة فحسب، فإننا نخون دماء الشهداء، وإن ظللنا ننوح على الشهداء فقط، فقد سلبنا المقاومة جزءا من الإنجاز الكبير الذي تحققه، أما من يجمع هذا بذاك، وفوقه يشارك في مبادرة لدعم إخواننا وتعزيز صمودهم فقد استمسك بالعروة الوثقى

ومع ما نشاهده في هذه المعركة من مقاطع تنشرها المقاومة، وتظهر نماذج سامية من البطولة والتضحية والفداء، فمن يضع العبوة أسفل الدبابة استشهادي نزل عند الموت، وكان قاب قوسين أو أدنى منه، ومن يرابط الساعات ليقتنص لحظة استهداف جنود العدو، ومن يقنص القناصين، ويرديهم قتلى لألا يرتكبون جرائم بحق المدنيين العزل، والمشتبكين في ليالي غزة الطويلة، أصحاب الألى والصلة والوصول، اختصروا كل معاني البطولة والفروسية ومقامات التصوف والرضى، ورسموا صورة بالغة الألق للمقاومة في زمن قال فيه بعض الناس بأن "زمن البطولة ولى ولم يعد"، وفي وقت تتجلى فيه كل معاني الركون واليأس والتآمر عليها وعلى جهودها، أصبح المقاومون في غزة معيارا جديدا للبطولة، وربما نرى في قابل الأيام أن تصبح "غزة" من مرادفات الشجاعة والإقدام والبسالة.

ختاما، ليست تلك الأبيات التي قيلت تحت أزيز طائرات العدو إلا بشريات ومنذرات، ومع كل ما نشعر به من فخر وسؤدد، فإننا كمن يتقلب على الجمر من مصاب إخواننا، وكل واحد منا يبكي شهداء غزة بطريقته، فإن بقي فعلنا فخرا بالمقاومة فحسب، فإننا نخون دماء الشهداء، وإن ظللنا ننوح على الشهداء فقط، فقد سلبنا المقاومة جزءا من الإنجاز الكبير الذي تحققه، أما من يجمع هذا بذاك، وفوقه يشارك في مبادرة لدعم إخواننا وتعزيز صمودهم فقد استمسك بالعروة الوثقى، وبذلك أغاظ العدو، وقض مضجعه.

ومع كل بيت يقوله مقاوم، ومع كل تكبيرة تصدح بها حناجرهم، نتيقن بأن التحرير أقرب إلى الواقع من كل خيالاتنا، وأن الانتصار العظيم وقوده التضحيات الكبرى، وأن صرح الاحتلال لا بد سيهوي ولو بعد حين، لكي تعود فلسطين إلى أهلها، وليست كهانة أو عرافة، بل هي حقيقة فما بقي احتلال أبد الدهر، ولا عمر مستعمر في أرض تمسك بها أهلها وأصحابها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.