المعنى الشائع للقيم أنها مقاييس ومعايير ضابطة، نحكم بها على الأفكار والسلوك والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية والجماعية، وهي تتميز بالثبات والدوام. وذكر طه عبد الرحمن أن هذا المعنى يجمع بين استحقاقين: استحقاق التوجيه له، واستحقاق التطبيق، ووجد أن لفظ "المثل" أو "المثل العليا" تقوم مقام القيمة أو القيم (طه عبد الرحمن، تعدية القيم).

لكن هناك من قدم معنى جديدا للقيم ينقلها من كونها أداة قياس إلى كونها نواهض وروافع، فقال: إن "قيمة" من القيام، فالقيم هي الأفكار والأعمال والموضوعات التي تنهض بالإنسان والمجتمعات، وتنعكس سلوكا واقعا رافعا متفاعلا مع الأحداث، ولا تبقى مجرد أداة قياس (عبد الوهاب شحادة، لمن شاء منكم أن يستقيم). وهذا المعنى برأيي هو ما أكد عليه نموذج غزة اليوم، من نواح عدة، منها ما يتعلق بالأفكار والمعتقدات، ومنها ما يتعلق بالسلوك والأعمال المنهضة المضاعفة للقوة.

المجموعة القيمية الغزية تشكل برأيي أساسا متينا لأي مجتمع ناهض، وتضاعف قوته أضعافا كثيرة، فيصبح قادرا على النهوض من جديد مهما كانت الظروف التي تقف أمامه

منظومة قيمية

مجموعة القيم المترابطة والمتفاعلة والتي تنهض بالمجتمع والفرد هي المنظومة القيمية القادرة على الاستفادة من قدرات المجتمع وإنمائه وتقويته، وفي نموذج غزة اليوم منظومة قيمية متجذرة في المجتمع، وليست عارضة، وهي ليست مجرد سلوك أخلاقي يتصف به الإنسان بطريقة فردية، بل هي مما توافق عليه المجتمع الغزاوي بحسب فهمه لتعاليم الدين، وبحسب خبرته الحضارية وتربيته الأسرية وثقافته المجتمعية. فالإنسان كما هو معلوم، يأخذ قيمه من محيطه الاجتماعي بالدرجة الأولى، ومن أسرته، وغزة ربت أهلها على هذه القيم المنهضة.

هناك أربع قيم أساسية قدمتها غزة، وهي بمجموعها، تشكل برأيي منظومة قيمية عنوانها القوة التي تذل أمامها أعتى القوى مهما كانت، هذه المنظومة الرباعية تشكل برأيي أساسا متينا لأي مجتمع ناهض، وتضاعف قوته أضعافا كثيرة، فيصبح قادرا على النهوض من جديد مهما كانت الظروف التي تقف أمامه، وبالتالي فهي تضع غزة على طريق البداية لهزيمة ساحقة للاحتلال وأعوانه، وتشكيل دولة فلسطينية قوية قادرة على تقديم المثال القدوة لكل دول العالم التي تعاني من الظلم والخذلان.

في نموذج غزة اليوم يظهر مفعول التعاون بين الناس، هذا التعاون الذي ينعكس تكاملا في الأدوار، فمن الطبيب إلى المسعف إلى المنقذ إلى العسكري إلى الإعلامي إلى الأم و…إلخ. تناغم وتكامل وعمل دؤوب

رباعية القيم الغزاوية

• الصبر والثبات

في نموذج غزة تطبيق واضح لقوله تعالى: ﴿وتواصوا بالصبر﴾ [البلد: من الآية 17] فالتواصي هنا حالة عامة بين جميع أفراد المجتمع، يقوم بها الجميع لتذكير بعضهم بضرورة الصبر، ما يعطي قدرة هائلة للفرد على التحمل والعمل على تجاوز المحن. وما يصلنا من مشاهد تدل على الصبر عند فقد الأحبة والمال والأملاك باتت دروسا تعلم البشرية كلها كيف يمكن للإنسان أن يصمد أمام كل المصائب التي يمكن أن تعترضه في هذه الحياة. "ما تعيطش يا زلمة، كلنا مشروع شهدا"، "فدا فلسطين، فدا الشباب كلهم، والشهيد الله يرحمه" عبارات باتت اليوم كافية لتسكين أكبر الآلام.

• الرحمة والتراحم

في نموذج غزة توضيح لمعنى الرحمة بأنها ليست شفقة ورأفة وعطف فقط، بل هي واجبات يجب القيام بها تجاه الآخرين. هناك رحمة وتراحم أي تشارك وتواصل، فالتراحم هو تواصل، ينعكس على علاقات الناس وعلى تعاملاتهم وسلوكهم تجاه بعضهم وتجاه باقي المخلوقات والكائنات، وفي غزة تتجلى أعظم مظاهر التراحم بين الناس، من خلال الوقوف مع المصابين ومعاونتهم، وتقاسم سبل العيش البسيطة، أو تقديم الخدمات لبعضهم بعضا، أو حتى المواساة والكلام الطيب، ومحاولة التخفيف من الألم، وما رفض الطواقم الطبية ترك المرضى والنجاة بأنفسهم بعد التهديدات إلا واحدة من صور الرحمة والتراحم الكثيرة جدا هناك.

• التعاون والتكافل

في نموذج غزة اليوم يظهر مفعول التعاون بين الناس، هذا التعاون الذي ينعكس تكاملا في الأدوار، فمن الطبيب إلى المسعف إلى المنقذ إلى العسكري إلى الإعلامي إلى الأم و…..إلخ. تناغم وتكامل وعمل دؤوب، لا يوجد أصوات ولا أعمال خارجة عن السياق، الكل متكامل مع الكل، والكل منخرط بالحرب والسعي للنصر بها، والتخفيف من مصابها بطريقته التي يستطيعها، لا يوجد مخذلون، ولا يوجد منهزمون، ولا يوجد من يملك ومن لا يملك، موارد الكل في خدمة الكل، وجهود الكل لإنقاذ الكل.

• إيتاء ذي القربى

الأسر في غزة مترابطة متشابكة، تمثل قوة واحدة، يكونون معا في السراء والضراء، يسكنون مع بعضهم، ويكمل بعضهم بعضا. ورغم أن المجازر الإسرائيلية التي ارتكبت وترتكب اليوم في غزة أدت لمحو أسر بأكملها إلا أن ذلك زاد الترابط الأسري، فكثيرون رفضوا النزوح قبل إخراج جثث أقاربهم الذين بقوا تحت الأنقاض، فليس هناك خلاص فردي، بل هناك تعاضد ودعم أسري لا متناه.

قيم غزة أعطتها القوة والقدرة، وأعطتنا مجالا جديدا لفهم ماهية تلك القيم ومعانيها، كما أعطتنا تطبيقا واقعيا عمليا على قدرة تلك القيم على إنهاض مجتمعاتنا

قدمت غزة اليوم نموذجا قيميا مثاليا، جعلها قادرة على النصر على أعتى آلة حرب حديثة، فغزة اليوم لا تقف أمام جيش إسرائيل وحده، بل تقف أمام جيوش عالمية ظالمة داعمة للكيان الصهيوني، مشتركة معه بالقتل والقتال وارتكاب المجازر، وحكومات متواطئة عاجزة خانعة.

قيم غزة أعطتها القوة والقدرة، وأعطتنا مجالا جديدا لفهم ماهية تلك القيم ومعانيها، كما أعطتنا تطبيقا واقعيا عمليا على قدرة تلك القيم على إنهاض مجتمعاتنا التي تعاني من الضعف والعجز وتشتت الجهود.