شعار قسم مدونات

نظرات في ترجمة البخاري..

صحيح البخاري
صحيح البخاري (الجزيرة)

تعطينا النصوص المبادئ، بينما تمنحنا تراجم الأخيار كيفية تطبيق هذه المبادئ، فلا نبقى نعيش في دائرة التنظير الواسعة بل ننزل إلى مرحلة التطبيق التي ترينا الممكن فعله وكيفية الفعل، فنرى المبدأ ولكن في صورة التنفيذ، وتطبيقا لهذه الفكرة سنقف في هذا المقال عند لقطات مختارة من ترجمة البخاري رحمه الله نستلهم منها دروس الحياة.

قال البخاري: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء "يقصد طلبة الحديث"، كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله للحديث.

اللطف الخفي وصناعة الكبار

قال والد أبي عبد الله البخاري: عندما دخلوا عليه عند الموت: لا أعلم من مالي درهما من حرام، ولا درهما من شبهة.

لنتأمل كيف يحضّر الله من اختاره لجلائل الأمور فيلطف به من أبيه، فيحفظ أصله من أسباب الضلال ليتربى الابن في بيئة ترعاها العناية الربّانيّة.

دعاء الأخيار وأثره

قال أبو عيسى الترمذي: كان البخاري عند عبد الله بن منير، فقال: جعلك الله زين هذه الأمّة.

قال الترمذي: استجيب له فيه.

علَّق الذهبي على القصة فقال: ابن منير من كبار الزهّاد.

فانظر كيف نظر الترمذي إلى هذا الدعاء للبخاري من شيخه وأثره فيه، وكيف دعّم الذهبي هذا النظر بتقويمه لابن منير أنه من كبار الزهاد يلمح بذلك إلى أنه ممن يرجى استجابة دعائه.

العمل النّوعي الذي يعتمد عليه

قال البخاري: صنفت الصحيح في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى.

هنا يلمح أبو عبد الله إلى معنى تربوي مهم، وهو أنه ينبغي أن يكون للمؤمن عمل يجتهد في نوعيته وقوته يكون حجة له بين يدي الله، وهذا ما رأى أنه فعله في تصنيفه لكتابه الصحيح واجتهاده في تأليفه.

كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب "يقصد كتابه الصحيح ".

التمّيز في العمل

البخاري: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء "يقصد طلبة الحديث"، كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبته وحمله للحديث.

انظر للتفكير الجيد عند هذا الرجل وإبداعه في طريق التحصيل، في الحياة قاعدة مهمة، "ليس المهم أن تفعل فقط بل كيف تفعل؟" لذلك ورد في الحديث "كتب الله الإحسان على كل شيء". مثّل الحديث بالجزء الأخير في الحياة، "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة " لينبه على قيمة الإحسان في الحياة من باب الأولى، ولذلك كان البخاري يقول: صنّفت كتبي ثلاث مرات.

اقتناص بذور الأفكار

كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتابا مختصرا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب "يقصد كتابه الصحيح ".

نحتاج المبادرة إلى المشاريع الجميلة عندما نسمع البعض يعطينا أصول أفكارها، ولا نضيع فرصة السبق إليها وتبنّيها.

حفظ جمال العلم بالأخلاق

وقد قالوا في ترجمته: قد سمع من رفقائه في طلب العلم ومن قوم هم في عداد طلبته في الإسناد والسن؛ للفائدة والتأكد عملا بقول وكيع: " لا يكون المحدّث كاملا حتى يكتب عمن فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه".

وكما أن هذا التصرف للتأكد فهو من جهة أخرى للتخلق بخُلُق التواضع؛ فصاحب العلم يُخشى عليه من التكبر؛ لأن العلم جاه ومكانة، وهذا يُبيّن أن القدماء كانوا يجتهدون في إحاطة العلم بالأخلاق التي تحفظه من أن يكون غير نافع، فقد استعاذ النبي صلى عليه وسلم من علم لا ينفع.

الالتزام ظهر في حُكْمه على الرجال فهو بوصفه رجل الحديث يحتاج أن يحكم على الرواة ولكن بقي أثر ذلك الخُلُق في أحكامه وعرف له العلماء تلك العبارات الأديبة فاعتبروا المعنى ولم يكتفوا بظاهر دلالة الألفاظ.

العمل الدائم

قال رواقه: سمعته يقول: " ما اغتبت أحدا قط، منذ علمت أن الغيبة حرام" وهذا خُلُق الدوام والالتزام في القضايا مدة الحياة من أخلاق الصحابة النادرة، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يَبيتُ ليلتين إلا ووصيتُه مكتوبة عنده"، متفق عليه، هذا لفظ البخاري.

قال ابن عمر: ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.

وهذا الالتزام ظهر في حُكْمه على الرجال فهو بوصفه رجل الحديث يحتاج أن يحكم على الرواة ولكن بقي أثر ذلك الخُلُق في أحكامه وعرف له العلماء تلك العبارات الأديبة فاعتبروا المعنى ولم يكتفوا بظاهر دلالة الألفاظ. قال: ابن حجر: وللبخاري في كلامه على الرجال توق زائد وتحر بليغ: يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل. فإن أكثر ما يقول: "سكتوا عنه"، "فيه نظر" وقلّ أن يقول: كذّاب أو وضاع؛ وإنما يقول كذّبه فلان"،وفي ظنّي الربط بين أخلاق المحدّث الذي يتكلم على الرجال وأحكامه عليهم باب بحث لطيف.

فقه القوة عند العلماء

قال ورّاقه: وكان يركب إلى الرمي كثيرا؛ فما أعلم أنّي رأيته – في طول ما صحبته – أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين، وهذا يؤكد المعنى الشمولي في فهم الدين عند الأولين والاهتمام بالقوة ومثل هذا الاهتمام بالرمي رُوي عن الشافعي رحمه الله.

خطر الهجوم على أعلام الأمة

قال عبد الله بن محمد المسندي: "محمد بن إسماعيل إمام؛ فمن لم يجعله إماما فاتهمه "وهذه الكلمة لها دلالتها وهو اعتبار من يتكلم في الأعلام الكِبار إنما يجعل نفسه متهما، وهذا التوجيه نحتاج الوقوف عنده في هذا الزمان الذي يتكلم فيه كل أحد في الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.