شعار قسم مدونات

فلسطين تستحضر الراحلين!

عبدالوهاب المسيري
المفكر المصري عبد الوهاب المسيري (مواقع التواصل الاجتماعي)

تساءلت دائما عن جدوى الكتابة، جدوى الكلمة، جدوى أن ينفق المرء عمره وهو يحاول أن يجمع أفكارا أو يبني وجهة نظر أو يعرض الحقيقة. ما جدوى كلمات تكتب وتوارى بين دفات الكتب ثم تدفن تحت ركام السنوات وطبقات من اللامبالاة والتجاهل.

جاءتني إجابة هذا السؤال كما جاءتني إجابة أسئلة كثيرة أثناء هذه الحرب على فلسطين. يقول الله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ۚ وإن الله علىٰ نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ۗ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ۗ ولينصرن الله من ينصره ۗ إن الله لقوي عزيز ) (سورة الحج: 39-40).

في خضم هذه الثورة العالمية على الصهيونية وأياديها الطويلة عادت أسماء كثيرة تطفو وكلمات تستخرج من تحت أنقاض الكتب المنسية حتى تكتب على لوحات المتظاهرين وتستخدم كدليل لمن انضموا حديثا لقوافل المقاومين لمنظومة الظلم العالمي.

إن ما يحدث في العالم الآن ليس بسيطا، أدرك ذلك وأعرفه جيدا، أعرف أن فلسطين في هذا الشهر غيرت أشياء كثيرة إلى أمد طويل،  فلقد أعادت القضية إحياء ما يعنيه رفض الناس للظلم، لم تعد عبارة "هناك طرفان" و "هذا الصراع معقد" تجدي وتسكت الناي كما في السابق. لقد تعالت أصوات كثيرة بأن لا مجال لوجهات النظر الآن، إما أن تكون إنسانا ترفض الظلم، أو تكون مجرما تدعم السافحين ومن يحالفهم.

في خضم هذه الثورة العالمية على الصهيونية وأياديها الطويلة عادت أسماء كثيرة تطفو وكلمات تستخرج من تحت أنقاض الكتب المنسية حتى تكتب على لوحات المتظاهرين وتستخدم كدليل لمن انضموا حديثا لقوافل المقاومين لمنظومة الظلم العالمي.

رأيت صورا لمالكوم إكس أو الحاج مالك الشاباز أيقونة النضال ضد العنصرية في أميركا وعبارات من مقاله الشهير "منطق صهيوني" تتردد على لسان مراهقين وشباب صغار، وتنشر على صفحات الإنترنت وتتلى في جلسات النقاش. يتحدث مالكوم عن منطق معطوب لا يحوي أي قدر من الذكاء أو القانونية، منطق ليس له سابقة في التاريخ. هذا المنطق الذي يحاول أن يحل محل النظام الاستعماري القديم ويصبح وريث الإمبراطورية الغربية الساقطة.

يعرف مالكوم كما عرف كثيرون في عام 1964 ما يتكشف الآن للجماهير الغربية، أن الصهيونية تحكم بالمال والحديد، وتعلب ألعاب التخفي تحت العبارات المقبولة وتدفع بالأموال لشراء الذمم والعقول،  وتعود كلمات الحاج مالك لتصدح بأن صرخة الفلسطينيين للعدالة لا تخص الفلسطينيين وحدهم، بل هي صرخة واحدة لكل المظلومين والمقهورين حول العالم.

لقد رأيت ترجمات كلمات الحاج مالك في كل مشهد لعلم فلسطيني يرفرف حول العالم في مدن ربما يتردد فيها اسم فلسطين عاليا لأول مرة منذ تأسيسها. رأيته في رمز البطيخة الذي صار معروفا وقصته مألوفة بين طلبة المدارس في بريطانيا شمالا وأستراليا جنوبا، ورأيته في شعار فلسطين من النهر إلى البحر الذي رفع في اليابان شرقا ولوس أنجلوس غربا.

في السياق العربي أسماء مثل عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد تظهر فجأة في أغنية راب، ومقاطع صوتية قديمة يعاد نشرها لأنها تساعد الجيل الجديد على فهم القضية.

لقد عاد هذا الذي عرف نفيه بأنه "رجل ميت" للحياة آلاف المرات وصدح صوته بالحق كما فعل دائما ولم يستطع حتى أولئك الذين اغتالوه حينها أن يسكتوا صوته بعد وفاته بـ60 سنة.

ليس مالكوم إكس وحده من استحضرته غزة،  فلقد استحضرت كثير من الشخصيات المهملة من قبل المؤسسة الرسمية في كل أنحاء العالم. قادة ثورة العبيد في أميركا، وقادة مقاومة الاحتلال البريطاني في أيرلندا، والشعوب الأصلية في الدول الاسكندنافية، وقبائل الشعوب الأصلية في الأميركيتين، وقبائل الشعوب الأصلية في أستراليا ونيوزيلندا، والجماهير السوداء في أفريقيا الجنوبية، وكأن ناقوسا دقض فأيقظ العالم من سبات عميق.

أرى في السياق العربي أسماء مثل عبد الوهاب المسيري وإدوارد سعيد تظهر فجأة في أغنية راب، ومقاطع صوتية قديمة يعاد نشرها لأنها تساعد الجيل الجديد على فهم القضية. أرى كتبا صارت الأكثر مبيعا بعد أن قضت سنوات في قاع القائمة. لقد استحضرت فلسطين الأموات نعم، لكن الأموات هنا ليسوا الذين دفناهم تحت الأرض فقط، بل أولئك الذين يسيرون بيننا وهم غافلون عما يحدث في العالم، بينما يعيشون حياتهم كالآلات والمكائن. لقد استحضرت فلسطين فيهم أرواحا صارت تدرك أن الحياة بها ما هو أكثر من أهداف حددت لنا من قبل منظومة استهلاكية تربي "الزومبيز".

أعتقد أنني ككل فلسطيني، مع إيماننا العميق بأن الله وحده هو الملجأ وإليه المصير، لكننا كنا نتعجب من العالم الذي لا يرى ما يحدث أو يراه ولا يفعل شيئا. وأعتقد أنني ككل فلسطيني الآن نشعر بشيء من الراحة، أن العالم ليس فاسدا بالدرجة التي كنا نظنها، أن الكبار الذين يحرقون البشرية والكوكب معها لم يحولوا البشر كلهم إلى مسوخ. نعم، استغرق الأمر 75 عاما والكثير من الفظائع، لكنه استيقظ أخيرا، ولا نعول إلا على الله ومشيئته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.