شعار قسم مدونات

المحرقة الفلسطينيّة.. هل يكفينا القول عن تمام الفعل؟!

20_12_2023- قطاع غزة-جباليا-جندي إسرائيلي يرتدي خوذة عليها صورة الهيكل المزعوم- IDF
المجازر اليومية في غزة، والحصار والألم والتشريد والدمار التام مع مسح كلي لعائلات من السجل المدني (الجيش الإسرائيلي)

العبارات التي تتقمص روح المرء بيقين صادق وأمل جارف لها وهجها البلاغي وسحرها النفسي والعقلي. ميزان قلبه ونافذة عقله، لذا كان الحرف معجزة النص القرآني، وكانت كلمة الله آية خلق المسيح، بل مبتدأ الخلق كله، ما شهدنا منه وما لن نشهد. أجدني أحيانا أكتب عبارة تفيض بروحي فأتوقف هنيهة وأعاود قراءتها مرة واثنتين وثلاثا، ولولا أنه يشق على قلبي فأشفق على نفسي منه لأعدتها ربما حتى المائة مرة، ومرات أخرى أرفق بقلبي فلا أقرؤها ولا مرة.

والكلمة الصادقة لها موضع إن زحزحت عنه حرفت، تمسك بك كما الطوق، وتروح تستعيد آثار قراءاتك القديمة منها والحديثة، وتظل تتساءل: كيف قفزت هذه العبارة على أناملي من غير ترتيب مسبق، من غير تفكير عميق ولا بحث أو تمحيص؟

المنطق هنا يفرض نوعا من الفرق المفاهيمي، تلك الشعرة الفاصلة بين اليأس المطلق والأمل المطلق. فكلاهما فعل متطرف، لا يقوى عليه كائن بشري محكوم بنواميس الله؛ أما الطريق بينهما فممكنة متاحة لمن درب نفسه وأخذها بقدر معقول من الأسباب.

قبل بضعة أيام كنت أتأمل قضاء الله في أمر يخصني مما يجوز وصفه بالاستحالة المادية العصية على التحقق (وما أكثر هذه الاستحالات!)؛ لكن هاجسا متلبسا بلبوس الإيمان الجازم واليقين الصادق (ولي فيهما قدر من تجربة معتبرة لا ينفيها عني عاقل) ظل يلح علي أن الاستحالة وإن كانت متحققة لكن يمكن في أقل الأحوال نفيها أو كبحها عن طريق الدعاء الصادق، تكسوه النية القلبية المخلصة التواقة لتمام الأمر. فوجدتني أخاطب نفسي: ليس الأمر على الله ببعيد.. لربما تنالني رحمة الله في هذا أيضا.

ثم أعدت التفكير ورأيت أن من الأسلم ألا ننساق إلى دوامة الأمل الذي تؤججه نشوة الروح، وأن شيئا من تخفيفه ومزاوجته بأقل الممكن المتاح في عالم الماديات هو الطريق الأصوب بغية عدم الارتطام بجدار الواقع في نهاية المطاف؛ والمنطق هنا يفرض نوعا من الفرق المفاهيمي، تلك الشعرة الفاصلة بين اليأس المطلق والأمل المطلق. فكلاهما فعل متطرف، لا يقوى عليه كائن بشري محكوم بنواميس الله؛ أما الطريق بينهما فممكنة متاحة لمن درب نفسه وأخذها بقدر معقول من الأسباب. الإيمان الثابت لابد منه، وبغيابه لن تقوى نفس بشرية على المطاولة وسط الدهاليز المعتمة ولجج الحياة المتواصلة.

هنا قد يقفز دعاة التنمية البشرية اعتراضا على هذا القول، ويرونه نكوصا تاما يصاحبه ترويج أحلام، أو مثلما قال إخوة سيدنا يوسف لأبيهم يعقوب عليه السلام في قوله تعالى: {تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} لانقطاع الأسباب وطول الأمد مع استمرار الأمل، مستنكرين عليه طبيعته البشرية التي جبل عليها ليكون نموذج الوالد المحب الملهوف لعودة ابنه.

والمتأمل في فصول هذه القصة مع استيفاء جامع لكل ملامح "الواقعية" السليمة المتكاملة في كل موقف وفي كل خالجة فإنه يدرك ألوان الضعف البشري الذي تنطوي عليه القصة دون أدنى تزوير في تصوير النفوس، مع تصوير ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة، المنهج الذي لا يهمل خلجة بشرية واقعية واحدة، وفي الوقت ذاته لا ينشئ مستنقعا من الوحل يسميه " الواقعية " أو "المنطقية" كالمستنقع الذي أنشأته "الواقعية" الغربية الجاهلية.

كيف صورت القصة ذلك الحزن القديم الذي أخذ بمجامع قلب سيدنا يعقوب، يصاحبه يقين صادق وحدس عميق ينفي كل الادعاءات من حوله: {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم}، ثم حزن شديد متجدد ينبش جرح نكبته الأليمة القديمة، دون انقطاع الإيمان: {وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم}، ثم تعرض نهاية القصة مشهد الاستحالة المنفية، وغيظ إخوة يوسف من ذلك الاتصال الباطني الدال على عمق ما بين أبيهم وبينه، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه. ثم إن الاستحالة ليست نفيا موضوعيا للدعاء. بل هي نفي للقنوط المفرط والمعلن.

إيمان الشعب المتأتي من يقين صادق، وإدراكهم للمعنى الحق لمعية الله ونصره الآتي لا محالة حتى وإن تحققت الاستحالة المادية

ولو نظرنا إلى المحرقة الفلسطينية، والمجازر اليومية في غزة، والحصار والألم والتشريد والدمار التام مع مسح كلي لعائلات من السجل المدني، ولا أقصد بقولي هنا عائلات مكونة من خمسة أو عشرة أفراد، بل ما يتجاوز المئة، مع غياب تام لأسباب العيش وقلة العتاد والعدة، واجتماع لكل أسباب اليأس بل القنوط المطلق من النصر والتمكين، مع تخل من العالم عن قيمه الإنسانية، واستمراره بالمشاهدة مع تكرار شعارات جوفاء لا توقف لهم نزفا ولا تطبب لهم جرحا.. كلها تشكل في اجتماعها سببا للقعود إن نظرنا بمنطق اختلال موازين القوى، إلا أن إيمان الشعب المتأتي من يقين صادق، وإدراكهم للمعنى الحق لمعية الله ونصره الآتي لا محالة حتى وإن تحققت الاستحالة المادية، وأن وعد الله حق وأنه: {ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}، مدركين أن الأمر كله ابتلاء وفتنة تخرج الصالح منهم بكل بشريته -مع طبيعة نشأته وتربيته ودينه تمثل بمجموعها واقعيته بكل جوانبها- نقيا خالصا متجردا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع، متمسكا بالعروة الوثقى رغم واقعه المرير ومستقبله المجهول، بشخصية مطمئنة ساكنة واثقة.

ليهز المجتمع الغربي والعربي أيضا متفردا على مسرح الأحداث، فاضحا عري العالم، وزيف شعاراته وازدواج قيمه وهشاشة معاييره. بكلمة صمود نابعة من قلب صادق وإيمان ثابت قد تبدو في البداية تحليقا في السماوات السابعة؛ لكنها في التحليل العميق أقرب إلى الأرض من اللافا البركانية، قلب موازين العالم كله رأسا على عقب، واختلت على إثر صموده معادلات القوى. هنا تظهر قوة الكلمة وأثر الإيمان الحق الذي قد يكون له مفاعيل أعظم من فعل قد نفعله لو أتيحت لنا إمكانية الفعل.

هذا هو سر الكلمة وجوهر اليقين في غياب تام للأسباب؛ هو يتطلع لنواميس الكون ولكن لا يرتضي أن يكون مأسورا باشتراط وجود الماديات التي تخضع لها أجسادنا المحكومة بقانون الفناء. يخطئ من يستهين به ويضعه في غير موضعه أو يحسبه فعلا منقوصا أو قول العاجزين الحالمين القاعدين. ولطالما كانت القوانين الإلهية بعيدة كل البعد عن قدرة استيعابنا البشرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.