شعار قسم مدونات

الكبد والمكابدة!

الإنسان ينمو في حياته من خلال المصاعب (شترستوك)

تتردد بعض الآيات على مسامعنا منذ ولادتنا دون أن نعي معناها، لربما فهمنا مفرداتها، وقرأنا سبب نزولها وحياً، لكننا ننتظر أحياناً السنوات والسنوات لتنزل على قلوبنا، وتعقلها أفئدتنا، وكم من آية ظننا أننا فهمناها ثم سمعناها بعد حدث أو خبر، فكأننا حينها نقرأها أول مرة، أو نسمعها لأول وهلة، ولا غَرو فقد أنزل الله كتابه ليخاطب عباده على مر الأزمان والأحوال والأماكن.

كان دائماً يشدني التفكير حول تتالي الآيات في قول الله سبحانه: "خلق الإنسان في كبد، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد.."، الذي كان يثير فضولي هو أن الإنسان الذي يعيش في كبد (والكبد هو الشدة التي تتلوها شدة) يُفترض أنه يعرف تماماً أن ما (ومن) يمكنه أن يقدر عليه كثير وكثير جداً، فلِمَ ذكر الله ظنَ الإنسانِ انعدامَ من يقدر عليه بعد الكبد؟

يختلف الناس في منازلهم بحسب مكابدتهم، ربما يتفق البشر حول هذا. لكن.. ولأن الإنسانَ إنسانٌ فهو شيئاً فشيئاً يرى تخطي تلك الصعوبات دليلاً على قدرته على التجاوز المستمر

كابدني هذا السؤال كثيراً، حتى طالعني مقطع لأحد المؤثرين -وما أكثرهم – يتحدث فيه عن حياته و"معاناته" في سبيل النجاح، فبدأ بسرد تجاربه الفاشلة وإخفاقاته المستمرة، ثم عطف تلك التجارب على ما هو فيه الآن، وأفاد بأن الإنسان إذا أراد أزاح الجبال بهمته وجفف مياه البحور بعزيمته، فلا يقف في وجه ذي الإرادة إلا نفسه التي بين جنبيه.

فتح علي سماع ذلك "الناجح" باباً من فهم تلك الآيات لم يكن قد حضرني قبل ذلك الحين، والحقيقة أني أحسب أنّ في الآية إشارة عظيمة لطبيعة إنسانية تجلت في العصر الحديث بشكل أوضح بكثير مما كان في السابق، وهو أن الإنسان لا يعيش في الكبد فحسب، بل الكبد هو ما يصنع الإنسان.. دعني عزيزي القارئ أوضح لك: الإنسان ينمو في حياته من خلال المصاعب، من صعوبة تعلم الكلام ثم المشي والطعام، إلى الشهادات العلمية والترقيات المهنية. أما ذلك الذي يعيش في الدعة والراحة والـ (منطقة الراحة) الخاصة به فيبقى على حاله بل يتنازل شيئاً فشيئاً حتى يُدفع دفعاً إلى الكبد مرة أخرى لينمو.

الكبد الذي جعله الله ذكرى للإنسان، حوّله الإنسان أداة لتأليه نفسه، ليس فقط على مستوى الفرد وعلى مستوى الدول والمجتمعات، بل على مستوى الإنسانية كلها.

ويختلف الناس في منازلهم بحسب مكابدتهم، ربما يتفق البشر حول هذا. لكن.. ولأن الإنسانَ إنسانٌ فهو شيئاً فشيئاً يرى تخطي تلك الصعوبات دليلاً على قدرته على التجاوز المستمر، فإذا تكاثر ذلك التجاوز، وتكاثر ذاك التكابد، والتكابد لتجاوز التكابد، ظن الإنسان أنه قادر بشكل مستمر على تجاوز العقبات بنفسه، وألا شيء يقف في طريقه، وأنه يستطيع أن يفعل كل شيء وأنه "لن يقدر عليه أحد". لذلك فالكبد الذي جعله الله ذكرى للإنسان، حوّله الإنسان أداة لتأليه نفسه، ليس فقط على مستوى الفرد وعلى مستوى الدول والمجتمعات، بل على مستوى الإنسانية كلها. تلك الإنسانية التي تتجاوز العقبة تلو العقبة، في الاقتصاد والتكنولوجيا والإنتاج والمَصْنَعة.. كابدت، وأدت هذه المكابدة إلى الوصول إلى مستويات عالية من إتقان حل المشكلات والمصاعب.. فظنت أيضا ألن يقدر عليها أحد.

الحقيقة أن ترتيب الآيتين بهذه الصورة قد يشير أيضا إلى أمرين اثنين:

  • أولهما: لم الإنسان خليفة الله في الأرض.
  • ثانيها: لم هو مِن أكثر المخلوقات كفراً بالله؛ إنها ثنائية الأمل المتولد عن النضال، والنسيان المتولد عن الفرح.

كلاهما أداتان تخرجان الإنسان من حيز نفسه ليصبح متجاوزاً لمجرد المادة والجسد، فأما بعضنا فيتجاوز نفسه فيعلو ليصل إلى مراتب الشهود والولاية لخالقه سبحانه فيصبح مستحقاً للخلافة، وبعضنا يتجاوز تلك النفس فيسفُل ليصل إلى دركات البهيمية بسفالته وكفره، لذلك فإن الآيات التالية تتحدث عن طريقين اثنين (فهديناه النجدين)، أحدهما يوجه طاقة النضال الإنسانية نحو التعالي، والثاني يصرف طاقة الإنسان في التسافل. وبين تعال وتسافل، عقبة يجب أن تقتحم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.