شعار قسم مدونات

غزة.. سؤال أم إجابة؟

تركت لنا غزة مهمة أن نستخلص العبر أن نتوقف عن فرز بعضنا بعضا إلى فلسطينيين جيدين وآخرين أقل جودة (وكالة الأناضول)

على أعتاب اليوم السابع والسبعين للعدوان الإسرائيلي على غزة أدركت أن ما يُدميه الألم حقا هو العقل، لا شيء قبل الحرب يكتنز مقوّمات البقاء بعدها، فالحقيقة المسلولة على الرقاب لم تكن بهذا الوضوح يوما ولا على هذه الهيئة، أما الكذب والهراء فكثير منه بقي خلفها لأن أحدا لم يدعوه أصلا، كل شيء تهاوى، هذا القدر من الوضوح بات يتطلّب قدرا غير اعتيادي أيضا من الغبار أو الضباب لكن السماء على غرار الأرض لا تبدي كثيرا من التعاون في هذا الصدد، هذه ليست جبال تورا بورا ولا حتى الجليل، هذه غزة المبسوطة على البحر في العراء بلا سواتر صخرية، وهذا هو عالمنا الذي دعاها ليلًا نهارًا للخلاعة لكنه هرول بكل أصناف الأقمشة ما إن فعلت، لأنها بتعرّيها عرّته أكثر بكثير مما هي تعرّت.

أما سؤال "الأرقى عرقا" و "الأقوم إيمانا" الذي اتضح أن العالم كله ما زال يعج بمحاولات الإجابة عليه كأن الحروب العالمية لم تحدث ولم يشعر أحد بالأسف عليها، فلم يكن ليُستحضَر لدى ذاك الجار أو لدى الحارس في الأسر لولا إقحامه مُجابا عليه لتبرير الإمعان الإسرائيلي في قتلهم أولا

لم يبدأ التاريخ في السابع من أكتوبر، وتاريخنا نحن لم يبدأ حتما حين علّق الشُّقر من معتنقي الآرية نجوما صفراء سداسية على صدور اليهود واعدين إياهم بالفناء، ودعوني أضيف أيضا لألّا أُفهم كمن يتحدّث مدفوعا بمديونية للاعتذار أو التبرير، أنه لم يبدأ أيضا حين شُرّعت أبوابنا للناجين منهم فور وصولهم على متن بواخر النجدة، نحن ببساطة لم نبدأ هناك، ولم يكن ذاك الحدث ليشارك في صوغ أيٍ من الأحداث التي شكّلت وعينا لولا صبّه على أكتافنا صبًّا وتحميلنا تبعاته، هذا ما وشت به استجابتنا الأولى لمفهوم "الغوي" الذي كان يدفع الوافد الجديد آن ذاك ليطلب من جاره الفلسطيني في طبريا أو صفد ما قبل النكبة أن يشعل الأنوار له أيام السبت وكان يفعل، وهذا ما عادت لتشي به ابتسامات الأسرى الراجلين على اختلافاتهم من السيارات التي أعادتهم من غزة مخلّصة إياهم من قسوة أن تعيش غزّيا ولو لبرهة من الزمن.

أما سؤال "الأرقى عرقا" و "الأقوم إيمانا" الذي اتضح أن العالم كله ما زال يعج بمحاولات الإجابة عليه كأن الحروب العالمية لم تحدث ولم يشعر أحد بالأسف عليها، فلم يكن ليُستحضَر لدى ذاك الجار أو لدى الحارس في الأسر لولا إقحامه مُجابا عليه لتبرير الإمعان الإسرائيلي في قتلهم أولا، وتبرير التعامل الوقح معهم كما لو أنهم مدينون بالاعتذار للعالم على مجرد وجودهم ثانيا، لكننا وبعد أن تعاملنا على سجيّة مشرقية مرت عبرها كل الديانات ولم يُكتب الفناء لأيّ منها مع هذا الطرح، عاد على أصحابه مُغيّرا إجاباته ومحمَّلا بكثيرٍ من الأسئلة على نحو لماذا لا يفنى الفلسطينيون؟ لماذا يسير العامد على إفناءهم نحو فناءه في خطى واثقة؟ كيف لا تكفي أضعاف مضاعفة من الفعل لمحوه؟ ولماذا لا تكفي دبابة لاغتيال حجر؟ وفي الغرب بعيدا، كيف يمكن الاختلاف على الله والمصير والعدو والصديق وشكل الحياة ومشرّعيها ونوع الثياب والمعنى من الوجود دون إحداث أي فارقٍ في اتجاه الفوّهة؟

سيتعيّن على هذا العالم الذي لم يسبق للتغطية الإعلامية أن نقلته إلى مقربةٍ كهذه من أي مجزرة قط أن "يطلع من بين الخبيزة" ويجيب، وأن يبدأ بالإصغاء لقادة إسرائيل وهم يخاطبون بعضهم بعضا بالحقائق بدلا من إلقاء البال للترهات التي يخاطبون بها العالم، نحن نرى بالصوت والصورة كيف تُحتل الأوطان ويُباد الإنسان، ونشهد على ما يمكن أن يكون مآلنا جميعا لو فرّ القتلة دون حساب، ما بالك وهم غير ملاحقين أصلا ليفرّوا؟ وما بالك وهم مطمئنون للحد الذي دفع وزيرة "العدل" فيهم لتصرح مرة بالقول "نحن لا نطالب الفلسطينيين بمنحنا الأرض، الأرض لا ننالها بل نحتلها، سنتحل الأرض ونعمرها، وعشر مستوطنات في النقب هي المشروع الصهيوني بكامل مجده"، وهذا النقب يا سادة، هذا الداخل الفلسطيني الذي يجري إقناعنا نحن أبناءه أن أشياءً من قبيل "عدم المغالاة" في الفلسطينية، التغاضي عن الإبادة والبحث عن نجاة فردية، قد تكون كافية للإبقاء علينا في مأمن الإبادة.

كثّفت غزة كل شيء للحد الذي جعلت فيه فهم واقعها وإدراك معنى أن يولد المرء ويعيش ولو لبرهة من الزمن غزّيا سبيلا لوضع اليد على المأساة الفلسطينية كلها حقيقة ومجازا، بل على آلامنا كلنا جماعة وأفرادا كلٌ في مكانه، إذ أن الموت والحياة فيها كلاهما خلاص من الحال

لم أولد في غزة وليس لي فيها أقرباء أتعامل منذ ما يزيد عن السبعين يوما مع احتمالية أن أتلقى خبر استشهادهم جميعا في رمشة عين، لكنني بعد كل ما رأيناه من أهوال أجد نفسي مقتنعة أن التفرع قد لا يكون ضروريا، والتقاط حقيقة صلبة أجدى بكثير من الإلمام بآلاف الجزئيات الصحيحة التي لا تفضي إلى أن يكون المرء إنسانا، ويصطفّ اصطفافا لا غبار عليه مع الحق في غزة معاقِبةً ومعاقَبة بدلا من هذا السيل من التعاطف الذي نراه مع الفلسطيني حين يكون مهزوما ومقتولا ومجلودا، ويصادر ويستبدل بالتجريم والتخذيل فور انتقاله ولو لأيام معدودات إلى موقع قوة، هذا التعاطف أشبه بأمنيات استمرار المعاناة للأبد.

كثّفت غزة كل شيء للحد الذي جعلت فيه فهم واقعها وإدراك معنى أن يولد المرء ويعيش ولو لبرهة من الزمن غزّيا سبيلا لوضع اليد على المأساة الفلسطينية كلها حقيقة ومجازا، بل على آلامنا كلنا جماعة وأفرادا كلٌ في مكانه، إذ أن الموت والحياة فيها كلاهما خلاص من الحال، والبقاء والرحيل هناك تبادل للأدوار، يشتمّ الباق رائحة الحياة خلف السياج ولا يتناولها، ويتذوّق الراحل طعم الموت تحت لسانه لكنه لا يبتلعه، مع عدم إغفال حقيقة أن فيها فقط يمكن أن تكون مُهجَّرا ومحاصرا في آنٍ واحد، بل معتقلا في علبة سردين لك أن تخرج رأسك منها إن استطعت لكن جسدك لن يتبعه إلا مهشّما، وإخراجك رأسك لا يعني تنفُّسك بل إبصارك النعيم الذي استُثنيت أنت منه مذ ولدت في غزة، غزة التي نحّت كل الأقلام جانبا وأرّخت بدمائها لمئةً شهباءَ مُكفهرّة من تاريخ بلادنا الرهيب، غزة التي صارحتنا بعد عقود من المفاوضات أننا نعيش في عالم لا يلقي بالً إلا لمن يضع البسطار العسكري على الطاولة أيًّا كانت مقولته، غزة التي عُلّقت على الصليب ولم تجد خلاصا، والتي تناوب على صلبها الكل ولم يجد خلاصا لا منها ولا منه.

تركت لنا غزة مهمة أن نستخلص العبر، أن نتوقف عن فرز بعضنا بعضا إلى فلسطينيين جيدين وآخرين أقل جودة، أثبتت لنا بمساجدها وكنائسها تتهاوى، بأهلنا فيها من كل التيارات السياسية يُقتلون ويُذبحون بالجملة، أن تناقض عدونا المركزي معنا أبسط مما كنا نتوقع، هو متناقض مع فكرة أننا موجودون أصلا، نشهق ونزفر في حيّز حبذا بنظره لو خَلا من أنفاسنا، أما بقية معطياتنا فلا يوظفها إلا في اجتراح آليات لإنهائنا بكل أصنافنا التي فُرزنا إليها، والأهم أنها علّمتنا جميعا أننا لم نكن يوما في موقع صحيح من تقييمها، كنا نعتقد أنها الاسم الحركي للألم وإذ بها الاسم الحركي للاستثناء الذي لا يكون فيه الألم والكثير منه وخذلاننا معا مؤديا حتميا لطأطأة الرأس والانكفاء على الذات، علّمت كثيرا منا ممن كانوا يعتقدون أن مقولتها السياسية جنون، أن الجنون هو أكثر الاستجابات موضوعية على واقع مجنون، وأنه بدلًا من "العقلنة" حريّ بنا أن ندع عنا الاستشكالات المصطنعة وننهمك في مشاكلنا نحن، لنجيب عن أسئلتنا نحن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.