شعار قسم مدونات

هل تحقق السعودية التوازن الدولي بين أميركا والصين؟

ميدان - السعودية والصين
لقاء جمع الرئيس الصيني (يمين) مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (غيتي إيميجز)

فرض التنافس الأمريكي-الصيني نفسه خلال العقد الأخير على العديد من القضايا والملفات الدولية، وكان له تبعاته وتطوراته على سياسات العديد من الدول، وخصوصاً تلك الطامحة للخروج من العباءة الأمريكية المفروضة عليها بحكم الرزوح في ظل عالم أحادي القطب تتربع على عرشه الولايات المتحدة الأمريكية، وهي في معظمها من الدول النامية في إفريقيا وآسيا، فكان صعود العملاق الصيني والمبشر ببزوغ فجر عالم متعدد الأقطاب فرصةً واعدةً لتحقيق ما ترنو إليه الدول التي سئمت من احتكار الولايات المتحدة لرسم السياسات الإقليمية والعالمية، والتي غالباً ما تراعي مصالح الولايات المتحدة أولاً مع إهمال كلّي أو جزئي للمصالح الوطنية والإقليمية للدول الأخرى، كما دفع التدخل الأمريكي القسري في شؤون الدول الداخلية، والذي قد يتعارض مع مقتضيات أمنها القومي أو ينتقص من سيادتها إلى سعي تلك الدول لعزيز العلاقة وبناء تحالف جديد مع القطب الصاعد، وهو ما من شأنه أن يضع حداً للتدخلات الأمريكية ويفرض نوعاً من التوازن الاستراتيجي تعزز فيه الدول المعنيّة سيادتها وتضمن مصالحها بالدرجة الأولى.

الحدث الأبرز الذي برهن على قوة وتنامي الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وذلك بعد نجاح الوساطة الصينية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، حين أعلنت الصين والسعودية وإيران في بيان ثلاثي عن إعادة فتح سفارتيهما واستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاعها منذ عام 2016

ولا شك أن منطقة الخليج العربي من أبرز الميادين العالمية التي بدأ ينعكس عليها هذا التنافس مؤخراً، والذي أكدته تحركات بكين الأخيرة في المنطقة، حيث أكدت تلك التحركات الرغبة الصينية في إيجاد موطئ قدم لها وزيادة نفوذها في الشرق الأوسط عموماً وفي دول الخليج العربي خصوصاً، وهو ما لاقى ترحيباً من قبل دول مجلس التعاون الخليجي وتوافق مع هواها المتزايد في النزوع نحو عقد تحالفات جديدة تحقق من خلالها تنويع علاقاتها وتحالفاتها الدولية فيما يخدم مصالحها الوطنية وسلامتها الإقليمية، وذلك لتفادي تبعات قصور الدور الأمريكي في المنطقة، وخصوصاً تلك المتعلقة بمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة كالتهديدات الناتجة عن الصراع مع إيران وأذرعها.

وتأتي المملكة العربية السعودية على رأس الدول الخليجية التي تسعى للاستفادة من الصعود الصيني عالمياً، وتهدف لتطوير علاقاتها مع بكين لتوفير شريك بديل تستطيع التعاون معه في حال قللت واشنطن وجودها وتدخلها في المنطقة، وإيجاد هذا البديل بالنسبة للرياض ضرورة، لا سيما أن العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية تتعدى طابع التحالف الاستراتيجي، فالمطلع على الخلفية التاريخية لهذه العلاقة يدرك أنها أقرب إلى كونها " علاقة وجودية "، فلطالما كانت الوصاية الأمريكية الضامن الأساسي لوجود واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي -بما فيها المملكة العربية السعودية-، ومن هنا أحسّت القيادة السياسية في السعودية بضرورة فتح قنوات جديدة مع الصين، بعدما أصبحت تشعر بتجاهل واشنطن الاستراتيجي للشرق الأوسط، وازداد هذا الشعور بعد وصول إدارة بايدن إلى البيت الأبيض وتوتر العلاقات الثنائية بين الدولتين. فما هي فرص نجاح السعودية في تحقيق هذا التوازن في العلاقة مع قوتين عالميتين معاً؟ وما الذي يمكن أن تقدمه الصين للسعودية؟ وهل يمكن أن تستعيض الرياض بدعم بكين لتستغني -ولو جزئياً- عن دعم واشنطن؟ وما الموقف الأمريكي من كل ذلك!؟

شكلت زيارة الرئيس الصيني "شي جين ينغ" للمملكة العربية السعودية في ديسمبر 2022 أحدث وأهم مناسبات تطور العلاقة بين الصين والسعودية، والتي شارك فيها الرئيس الصيني في قمة مجلس التعاون الخليجي، وكان لها دلالاتها الكبيرة على مسار الحضور الصيني في المنطقة، ففضلاً عن أهميتها الاقتصادية المتمثلة بتوقيع اتفاقيات شراكة استراتيجية بقيمة 30 مليار دولار، وقع الطرفان مذكرات تفاهم للتوفيق والدمج بين "مبادرة الحزام" الصينية وبين "رؤية المملكة العربية السعودية لعام 2030″، وهو ما يدل على البعد الاستراتيجي الذي بدأت تأخذه العلاقات بين البلدين، فالمعتاد والمتوقع لدى جميع المراقبين أن تقوم العلاقات الثنائية بين البلدين بشكل أساسي على البعد الاقتصادي، وهذا صحيح وهو ما ينطبق على هذه الحالة بالفعل، حيث تعد الصين حالياً الشريك التجاري الأول للمملكة العربية السعودية على مستوى الاستيراد والتصدير السعودي، ولكن العلاقة تعدت المجال الاقتصادي لتشمل مجالات أخرى كالأمن والتكنولوجيا، وتنسق من أجل ملفات استراتيجية وأهمها مسألة "أمن الطاقة العالمي" التي أصبحت الشغل الشاغل للمجتمع الدولي ودوله الكبرى بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما استغلته السعودية لتثبت نفسها كفاعل دولي قوي في الساحة الدولية وشريك استراتيجي للقوى الكبرى، وهكذا تلاقت التطلعات وتقاطعت المصالح السعودية الصينية لتنتج عنها علاقات استراتيجية أقوى وأوسع نطاقاً.

ثم كان الحدث الأبرز الذي برهن على قوة وتنامي الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وذلك بعد نجاح الوساطة الصينية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، حين أعلنت الصين والسعودية وإيران في بيان ثلاثي عن إعادة فتح سفارتيهما واستئناف العلاقات الدبلوماسية بعد انقطاعها منذ عام 2016، ولعل هذا النجاح غير المتوقع هو المؤشر الأكبر على تغير في نمط العلاقة والتعاون الصيني والسعودي، حيث يرتبط بالملف الأكثر حساسية في العلاقات السعودية الأمريكية، وهو الملف الإيراني والعلاقة مع إيران وأذرعها في الشرق الأوسط، فلطالما كانت الولايات المتحدة تحتكر هذا الملف في علاقتها مع الرياض معتبرةً نفسها الضامن الحقيقي والأقدر على الحد من التوسع الإيراني وعدم السماح له بتهديد أمن ومصالح السعودية، لكن الصين -التي تتمتع بعلاقات ممتازة مع الجانب الإيراني- قدمت في هذه الحالة للسعودية ما عجز الحليف الأمريكي عن تقديمه، ويمكن القول أن السعودية استعاضت عن عجز الأخير بالبديل الصيني ووجدت فيه ضالتها. كما دلت تلك الوساطة على تغير في نمط السياسة الصينية التقليدية التي كانت تقوم بشكل أساسي على العلاقات الاقتصادية، حيث أصبحت بكين تتبنى دوراً استراتيجياً يتخطى التوسع الاقتصادي على المستوى الدولي، وهو دور تتدخل بموجبه في السياسات الإقليمية والأزمات الدولية بما يخدم مصالحها ومصالح شركائها.

الصين تبدو راضيةً عن الهيمنة العسكرية الأمريكية على الشرق الأوسط والخليج العربي، وهي لا تسعى وغير مستعدة أصلاً للحلول محل الولايات المتحدة في تبني الوصاية العسكرية والأمنية، لأن ذلك يضعها أمام تكاليف وتبعات هي بالغنى عنها، بينما تبقي أولويتها على حفظ مصالحها الاقتصادية وتطوير علاقاتها التجارية مع دول المنطقة

ولكن بعد أحداث "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر، تشرين الأول، عاد التساؤل عن مدى إمكانية استبدال الوافد الصيني بالغياب الأمريكي، ومدى نجاح القيادة السعودية في تحقيق هذه التوازن الدولي في سياستها، وذلك بعد أن أثبتت تطورات الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس أن واشنطن مازالت الفاعل الأقوى والمؤثر الأكبر في الشرق الأوسط، وذلك لكونها صاحبة التواجد العسكري الأقوى والأشد تأثيراً، لاسيما في دول الخليج والسعودية تحديداً، حيث تمتلك واشنطن عدة قواعد عسكرية ذات قدرات دفاعية جوية وصاروخية عالية على الأراضي السعودية، وقد أثبتت التحركات والمواقف السياسية السعودية تجاه هذه الأزمة الأخيرة أن الرياض مازالت تنسق وتتعاون مع واشنطن بالدرجة الأولى في القضايا الأمنية والإقليمية. بينما كان التأثير والتحرك الصيني طفيفاً جداً حتى على مستوى التواصل الدبلوماسي مع دول المنطقة، فظهر وكأن الصين لا يهمها مما يحصل سوى عدم وصول التصعيد لمرحلة يؤثر فيها سلبياً على استقرار مصالحها الاقتصادية مع شركائها في الشرق الأوسط، وهو ما أكد لدول المنطقة والفاعلين الإقليميين عدم جدوى التعويل على الدور الصيني في إحداث فارق أو تغيير في الأزمات الحقيقية.

كما تبدو الإدارة الأمريكية غير مكترثة فعلياً بتنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الرياض وبكين، حيث رأت أن ذلك لا يقلص من نفوذها ولا يهدد مصالحها الحيوية والاستراتيجية في الشرق الأوسط. فيما ينحصر التخوف الأمريكي من احتمالية تحول الدور الصيني إلى انخراط في المجالات الأمنية والعسكرية، حيث تتخوف واشنطن من إقدام الرياض على التعاون في المجال النووي مع الصين للحفاظ على توازن القوى مع إيران التي ما يزال مستقبل مشروعها النووي مجهولاً وذلك في ظل عدم وضوح مآلات المفاوضات الإيرانية الأمريكية حول ذلك الملف.

علاوة على ذلك فالصين تبدو راضيةً عن الهيمنة العسكرية الأمريكية على الشرق الأوسط والخليج العربي، وهي لا تسعى وغير مستعدة أصلاً للحلول محل الولايات المتحدة في تبني الوصاية العسكرية والأمنية، لأن ذلك يضعها أمام تكاليف وتبعات هي بالغنى عنها، بينما تبقي أولويتها على حفظ مصالحها الاقتصادية وتطوير علاقاتها التجارية مع دول المنطقة، فتحظى بالمغانم دون المغارم، وهو ما ينسجم أيضاً مع سياستها العالمية التي تقوم على "الحياد" النموذجي وتبنى المواقف الدولية العامة تجاه القضايا والنزاعات الإقليمية.

والحاصل أن مجموع المعطيات السابقة تدعم فرضية عدم إمكانية الاستعاضة بالبديل الصيني للحلول مكان واشنطن بالنسبة للرياض، وذلك على المدى المنظور على الأقل، وتفسيرها ببساطة هو عدم وجود تناظر في مجالات تعاون وشراكة الرياض مع كل من الطرفين، ففي حين يشمل الحلف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة كافة مجالات التعاون السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، تقتصر العلاقات مع بكين على الجانب الاقتصادي الذي تفوقت فيه الصين على نظيرها الأمريكي في نسبة التبادل التجاري مع السعودية، بينما تنخفض نسبة التعاون والتنسيق بين الرياض وبكين بشكل كبير في المجالات الأخرى، وعلى رأسها المجال العسكري والأمني، ولذلك تبقى حاجة المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة أساسية وذات أسبقية مقارنةً بالعلاقة مع الصين التي تعتبر علاقة من الدرجة الثانية بالنسبة للرياض بحكم الأمر الواقع، لأن العامل العسكري يبقى الضامن الأول للأمن في العلاقات الدولية، ولأن الوجود الأمريكي مازال حاضراً بثقله بجميع الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية في المملكة والدول المحيطة بها، وهذا يضعف إمكانية تحقيق الرياض لتوازن سياسي في علاقتها مع بكين وواشنطن، لأن الصين ستبقى شريكا ثانويا لا يحل محل الحليف الأمريكي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.