شعار قسم مدونات

من راسل إلى فلوريدي.. جماليات التفكير العلمي والثورة الرقمية

1-من أهم أسباب شلل القرار هو عدم تربية الأبناء على الاستقلالية بالتفكير–(بيكسلز)
يعتبر العلم والمنطق أساسيين في فهم العالم والتفاعل معه (بيكسلز)

يطرح عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند راسل في كتابه "النظرة العلمية" فكرته عن أثر العلم في الحياة البشرية من خلال استعراضه لثلاثة مفاهيم أساسية: طبيعة المعرفة العلمية ونطاقها، وقوة العلم وتأثيره على المجتمع، والعلاقة بين العلم والحكمة، وكيف يمكن للعلم والمعرفة أن يؤثرا على الطريقة التي نفكر بها في الحياة.

الكتابان يشكلان نقطتين مهمتين في لغة الفلسفة الحديثة، حيث يركز كل منهما على تفكيك تأثيرات التطور العلمي التكنولوجي والمعلوماتي على الإنسان والمجتمع.

يعد الكتاب مقدمة جيدة لتطور الفلسفة الواقعية المادية، استهله بمقدمة ثرية ذات نكهة فلسفية، تسم كتابات المفكرين ومن تخصصوا في العلوم، وتجعلك تتساءل عما يدفع بعض أكابر العلماء في عصرنا من أمثال الراحل "ستيفن هوكينغ" إلى الادعاء بأن عصرنا هذا هو عصر موت الفلسفة؟ ويأتي كتاب "الثورة الرابعة" لأستاذ الفلسفة وأخلاقيات المعلومات "لوتشيانو فلوريدي" داعما له بمقدمة فلسفية تكشف عن طابعها، حيث يظهر المؤلف الغرض من كتابه واصفا له بأنه "كتاب فلسفي، في المقام الأول على الرغم من أنه ليس كتابا للفلاسفة فقط، فهو يسعى إلى تحديد وتوضيح بعض القوى التقنية العميقة التي تؤثر في حياتنا، وفي معتقداتنا، وفي أي شيء يحيط بنا؛ لكنه ليس أطروحة تقنية أو علمية" والكتاب استكمال في تصنيفه من حيث إعادة صياغة مفهومنا عن أنفسنا لثورات ثلاث سابقة؛ "الكوبرنيكية والداروينية والفرويدية" بوصفها ثورات علمية كان قد أسهب في الحديث عنها الفيلسوف "فريدل فاينرت" في كتابه "كوبرنيكوس وداروين وفرويد: ثورات في تاريخ وفلسفة العلم"، و"فلوريدي" يقصد بعنوانه هنا مستوى مفاهيميا تكون فيه تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الرقمية (وما يرتبط بها من التقنيات المتصلة بالصناعات المعلوماتية) هي المادة المؤثرة والمحركة في هذه الثورة.

الكتابان يشكلان نقطتين مهمتين في لغة الفلسفة الحديثة، حيث يركز كل منهما على تفكيك تأثيرات التطور العلمي التكنولوجي والمعلوماتي على الإنسان والمجتمع. يبرز راسل أهمية الطريقة العلمية والتفكير المنطقي، بينما يستعرض فلوريدي تأثيرات "الثورة الرابعة" التي تشكلها التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، وكلاهما يتفقان على أن العالم يشهد طوفانا غير مسبوق من المعرفة أقرب لأن يكون "تسونامي" جارفا، يسير بخطى أوسع من إمكان إدراكه، فاختار له الفيلسوف فلوريدي توصيف "التأريخ المكتظ"، في حين وصفه راسل بقوله "صفحات قلقة يبلى جديدها قبل تمام تأليفها" في إشارة إيحائية واضحة الدلالة على عدم القدرة المتزايدة للكائن البشري على التعامل مع الطوفان المعلوماتي.

يعنى راسل بالتفكير المنطقي واستخدام العقلانية في البحث عن الحقيقة، بينما يبرز فلوريدي ضرورة التأقلم مع تحولات تكنولوجية هائلة.

راسل، في "النظرة العلمية"، يعتبر العلم والمنطق أساسيين في فهم العالم والتفاعل معه، ويشدد على أهمية استخدام اللغة بدقة وتحليل المفاهيم لضمان فهم صحيح ودقيق. في المقابل، يستكشف فلوريدي في "الثورة الرابعة" تأثيرات تقنيات المعلومات والاتصالات على حياتنا وثقافتنا. يعنى بمفهوم "الثورة الرابعة" كتغيير فلسفي جوهري يتسم بتأثير التكنولوجيا والمعلومات على جميع جوانب الحياة. يظهر كيف أن الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة سيشكلان جوانب أساسية في المستقبل، مما يتطلب منا إعادة النظر في الأخلاقيات البشرية والتفكير في تقبلنا للتغييرات المتسارعة.

بينما يعنى راسل بالتفكير المنطقي واستخدام العقلانية في البحث عن الحقيقة، يبرز فلوريدي ضرورة التأقلم مع تحولات تكنولوجية هائلة. تتلاقى الفلسفة في هاتين الأعمال لتقديم فهم متكامل للإنسان ومستقبله في وجه التحديات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، التي لم يعد فقط مجرد نظام غاشم يتخذ القرارات بطريقة آلية غير ذكية، باستخدام الخوارزميات وغيرها من التقنيات التي تتطلب كميات خارقة من البيانات، وإنما تستخدمه الحكومات والشركات على نطاق واسع للمراقبة والسيطرة والتزييف.

في مقاربتهما المختلفة، يلمح كل من "راسل وفلوريدي" إلى ضرورة إشراك العقل والفلسفة في التفكير حول تكنولوجيا المستقبل خاصة مع احتدام التنافس بين الحكومات وحرارة السباق، على الرغم من تأكيدهما على أهمية الطريقة العلمية وتكنولوجيا المعلومات، يدعوان إلى التحلي بالوعي الأخلاقي والتفكير الفلسفي النزيه لضمان تطوير تكنولوجيا تعزز الإنسانية بدلا من تقويضها وتجنبا للغرق في لجة العبودية المعلوماتية التي تفرضها الحكومات أو الهياكل المؤسساتية العملاقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.