شعار قسم مدونات

عبر البوسنة.. تاريخ في البلقان يلد حاضرا في فلسطين (6)

البوسنة والهرسك
البوسنة والهرسك (الجزيرة)
  • الطريق إلى زينيتسا.. في صحبة مقاتلي العرب في البلقان.
  • زيارة دامية لموقع صربي بوسط البوسنة.
  • لماذا أبلغ العرب العسكريين الصرب بالهجوم قبل وقوعه بدقائق؟

كانت الساعة تقترب من الثانية صباحا، وأنا أحاول ترويض النوم حتى أنال منه سويعات قبل أن نتحرك تجاه الموقع الصربي الثاني في تلك المنطقة في وسط البوسنة، والذي كلفت ثلة من المجاهدين العرب بالاستيلاء عليه.

كان النوم عصيا بسبب توتر -لا يفيد أن أنكره- إزاء ما نحن مقدمين عليه، وأيضا، بسبب كلمات ميشا الأسير الصربي التي ظلت تطن في أذني حول ما يراه هو من جنون أبناء جلدتي من المقاتلين العرب.

استأذنت من أحد أفراد الحراسة في أن استلقى في العراء أمام أحد المباني المكونة للموقع علني أنجح فى ترويض نوما بات عصيا. اصطحبت معي حقيبة نوم (منامة) مكسوة بالفراء من الداخل، ودخلت بها بعد أن افترشتها أمام المبنى.

رحت أعد النجوم في السماء في محاولة للتوقف عن التفكير في كلمات الضابط الصربي الأسير، ولكنى فشلت. وبالطبع، فإنني كنت أتفهم غرابة سلوكيات ومنطلقات المجاهدين العرب في أعين جنود الصرب، ناهيك عن غرابتها في أعين إخواننا من مسلمي البوسنة.

رحت أفكر في أسباب إحجام وفشل ورفض الحكومات العربية الاستفادة من هذه القوة الجبارة للشباب العربي. جعلت أفكر فيما يمكن أن يكون عليه الوضع إذا ما احتضنت هذه الحكومات تلك القوة الجبارة ورشدتها بقصد توظيفها بشكل إيجابي بعد أن تضع لها أولويات وضوابط وخطوط حمراء أمام مناطق وقضايا بعينها بما يمليه الأمن القومي لكل دولة. ويبدو أن النوم أرتضى أخيرا أن يصالحني، فلم أشعر سوى بيد القائد عبد القادر وهو يوقظني وقد شارفت الساعة على السادسة صباحا.

في غضون دقائق تحلق 35 من عناصر المجاهدين لمراجعة خارطة منطقة الهجوم الوشيك، بالإضافة إلى رسم كروكي للموقع الصربي المستهدف. عقب ذلك بدأ الجميع في الدعاء إلى الله بالنصر أو الشهادة في مشهد مهيب، وذلك قبل أن ينطلقوا خفافا إلى هدفهم.

تسليح "عرب البوسنة"

فوجئت بأن رهط المجاهدين العرب قد أوشك أن ينتهي من استعداداته، فالكل ملتزم بزيه الأسود المكون من سروال + بلوفر + سترة مكسوة بالفرو من الداخل + حذاء أسود برقبة طويلة تصل إلى ما دون الركبة. في الوقت نفسه، فإن التسليح الذي يمكن رصده على الفور كان خفيفا، وإن بدا فعالا.

فقد كان تسليح كل عنصر من عناصر المجاهدين مكون من التالي: مدفع آلي قصير سريع الطلقات –ثلاث طبنجات آلية أثنين في جرابين تحت الإبطين مزودين بكواتم صوت، والثالثة في جراب حول الخاصرة– ثلاثة خناجر ماضية، أحدهما في جراب في الخاصرة وأثنين كل منهما في جراب مربوط في أعلى الفخذ – ما لا يقل عن 12 قنبلة يدوية هجومية بعضها يتدلى من على جانبي الفخذين – جهاز لاسلكي من طراز (موتورولا) لكل عنصر.

وحيث إن القوة البوسنوية التي كان من المفترض أن تصل لاستلام الأسري الصرب لم تصل لأسباب مجهولة، فقد تم تخصيص خمسة من عناصر المجاهدين للبدء في رحلة العودة بالأسري العشرة من الصرب ممن وقعوا في الأسر في الموقع الأول إلى موقع لقيادة الجيش البوسنوى خارج ساراييفو.

في غضون دقائق تحلق 35 من عناصر المجاهدين لمراجعة خارطة منطقة الهجوم الوشيك، بالإضافة إلى رسم كروكي للموقع الصربي المستهدف. عقب ذلك بدأ الجميع في الدعاء إلى الله بالنصر أو الشهادة في مشهد مهيب، وذلك قبل أن ينطلقوا خفافا إلى هدفهم.

طوال الرحلة التي اخترقت أحراشا وغابات من أشجار السنديان الباسقة، جعل عبد القادر يشرح لي معالم الطريق وكيف يتم اختيار بعضها لتكون أهدافا ثابتة تدل على الهدف، ناهيك عن معالم أخرى تستخدم كمفاتيح لخرائط الميدان. المعلومات كانت تتدفق من عبد القادر سهلة، بقدر ما هي مثيرة. فى الوقت نفسه، راح عبد القادر يشرح لي ببساطة خطة الهجوم، حيث قال: "قبل بدء الهجوم المقرر في الساعة الثالثة من بعد الظهر، وقبل ساعتين من حلول الظلام سينقسم الرهط إلى ثلاث مجموعات كل واحدة مكونة من عشرة مقاتلين، وكل منها سيسلك طريقا مختلفا، حتى ينتهي الحال بالموقع الصربي محاصرا من ثلاث جهات، ومن ثم سيبدأ الهجوم على ثلاثة محاور. أما المقاتلين الخمسة الأخرين، فسيقومون بمهمة القضاء على عناصر الاستطلاع والتأمين الصربية الموزعة على نطاق كيلومتر حول الموقع، وذلك قبل ان يتجمعوا لتأمين مؤخرة الموقع.

القوات المهاجمة الثلاث، ستتخذ تشكيلا قتاليا أثناء الهجوم وهو تشكيل 5X5 والذي يتم اتباعه في القتال المتلاحم لمزيد من تأمين القوات المهاجمة. والتشكيل القتالي 5X5 يتمثل في توزيع كل قوة على شكل خمسة مقاتلين في المقدمة مع المحافظة على مسافة أربعة أمتار بين كل منهم، ومن ورائهم وعلى بعد ستة أمتار الخمسة الأخرين بشكل مائل بحيث يسد كل من الخمسة في المؤخرة الفراغ بين أفراد المقدمة.

قبل بدء الهجوم بخمس دقائق سيقوم المجاهدون في المجموعات الثلاث بفتح أجهزة اللاسلكي الخاصة بهم لكي يتبادلوا الحديث باللغة العربية بشكل واضح على نفس الموجة والتردد التي تعمل عليها أجهزة اللاسلكي الخاصة بالموقع الصربي حتى يتسنى لأفراد الموقع أن يدركوا أن منطقتهم داهمها المجاهدون العرب، وانهم على وشك الهجوم عليهم وذبحهم، إذا لم يفروا من الموقع أو الاستسلام، وذلك تمهيدا لبدء الهجوم الرئيسي.

نحن نسعى للسرية المطلقة حول تحركاتنا ونوايا الهجوم حتى دقائق معدودة قبل الهجوم، حيث إنه إذا علم الطرف الآخر بأننا نوشك الهجوم قبيل دقائق، فإنه لن يكون لديه الوقت أن يستعد بدفاعات فعالة، ويكون إعلامه بالهجوم في نفس الوقت ضربة نفسية هائلة تشارك فى انهيار دفاعاته

الخطة المجنونة!

الخطة بدت مجنونة، ومليئة بالثغرات الواضحة. ومن بين هذه الثغرات أن الهجوم سيبدأ في وضح النهار وقبل المغرب بساعتين، في حين إنه من الأكثر منطقية أن يستغل الليل كستار في الهجوم.

إلا أن الثغرة التي بدت أكثر جنونا تمثلت في ذلك الإجراء غير المبرر بفتح أجهزة اللاسلكي الخاصة بالمجاهدين على نفس موجة وتردد أجهزة الموقع الصربي قبيل بدء الهجوم بخمس دقائق، وكأنه لم يكف الهجوم اثناء النهار، وإنما لزم الإعلان عنه للعدو صراحة عبر أجهزة اللاسلكي!

أثناء فترة راحة قصيرة من عناء الطريق طرحت على عبد القادر هذه الثغرات البادية على الخطة، فكان هذا الحوار السريع:

ما يبدو لك ثغرات، هي كذلك بالفعل، ولكنها ثغرات مقصودة وتحقق لنا العديد من الأهداف!

  • ولكن إجابتك هذه تطرح مزيدا من الأسئلة؟

إن الهجوم الليلي يمكن أن يوفر ستارا للمباغتة، إلا أن استبعاد الطرف الآخر أن نقوم بهجوم سوى تحت أستار الليل سيجعل من النهار ستارا أكثر سمكا من ستار الليل!

  • ولكن ذلك يتناقض مع خطوة إذاعة نيتكم بالهجوم قبيل دقائق منه بفتح أجهزة اللاسلكي الخاصة بكم على نفس موجة وتردد أجهزة الموقع الصربي!

وهذا ما قصدته بالضبط، فنحن نسعى للسرية المطلقة حول تحركاتنا ونوايا الهجوم حتى دقائق معدودة قبل الهجوم، حيث إنه إذا علم الطرف الآخر بأننا نوشك الهجوم قبيل دقائق، فإنه لن يكون لديه الوقت أن يستعد بدفاعات فعالة، ويكون إعلامه بالهجوم في نفس الوقت ضربة نفسية هائلة تشارك فى انهيار دفاعاته، والإسراع بفرارهم أو استسلامهم.

  • ولكن ماذا تركت للعدو مما لا يعرفه، حتى وإن كانت المعرفة سابقة على الهجوم بدقائق معدودة؟

بالرغم من أننا نعلن عن وجودنا قبل أن نضرب بدقائق معدودات، فإن عدونا لا يعلم العديد من الأشياء فائقة الأهمية، ومن بينها: مدى قربنا من موقعه، ومن أننا أقرب إليه مما يظن، ولدرجة أننا نراهم من مكامننا، ومن أن الهجوم سيأتي عليهم من ثلاثة اتجاهات، ناهيك عن جهلهم باتجاهات الهجوم.

  • ولكن تكرار هذا الأسلوب في الهجوم يمكن أن يحول نقاط القوة إلى نقاط ضعف…

يجب أن تعلم أن الأساليب تتعدد وتختلف، وليس في كل عملية نطبق نفس الأسلوب الهجومي، إلا أن الأسلوب الذي ستراه بعد قليل جرب مرات قليلة من قبل وثبتت فاعليته بشكل مذهل.

  • ولكن لماذا لا تفترضون أن الصرب سيبثون عناصر استطلاع في المناطق المحيطة بموقعهم مثلما أنتم فعلتم بالضبط، وخاصة أنهم لا شك يعلمون بوقوع الموقع الصربي الآخر منذ يومين؟

بالنسبة لكونهم يعلمون بوقوع الموقع الصربي، فإنهم لا يعلمون، وهذا هو أحد الأسباب التي أبقينا بسببها على حياة عشرة من الضباط والجنود الصرب في الموقع الأول. فمن بين هؤلاء اثنين يقومون على أجهزة الاتصال اللاسلكي، وقد قاموا بالاتصال عدة مرات مع الموقع موضع الهجوم حاليا.

وحتى بعد أن قررنا أن نعيدهم إلى الخطوط الخلفية توطئة لمبادلتهم بأسرى من البوسنويين، فإن هذا القرار لم يعلن بعد، ولذا، فإن القيادة الصربية، وبالتالي الموقع الذين بصدد مهاجمته لا يدركون سقوط الموقع الآخر.

كان المجاهدون العرب يتحركون بخفة الاشباح ويتعاملون مع العسكريين الصرب بمنتهى السرعة والكفاءة، مستخدمين في ذلك -في مراحل ما قبل الهجوم الصريح- الأسلحة البيضاء فقط حتى لا يعلن عن الهجوم قبل التوقيت المناسب له.

أما بالنسبة لعناصر الاستطلاع من الموقع الصربي، فنحن نعرف الحدود التي يصلون إليها، وهي لا تصل إلى الموقع الذي سقط في ايدينا، وعلى كل الأحوال، فإنه منذ ما يقرب من نصف الساعة، قامت مجموعة خاصة من المجاهدين سبقتنا على الطريق بالإجهاز على عناصر استطلاعهم.

استأنفنا المسير، حتى بلغنا نقطة على الطريق قبل أن تنقسم الجماعة إلى ثلاثة فصائل صغيرة كل منها أتخذ مسارا مختلفا، وبقيت أنا مع مجموعة القائد عبد القادر. بعد فترة أشار أحد افراد المجموعة إلى كومة من أوراق وأغصان الشجر، وعندما أزاحها رأيت جثة جندي صربي كان الدم مازال ينفر من طعنة عميقة باتجاه قلبه وتحت قفصه الصدري. ويبدو أن عنصرا من المجاهدين الذين اشار لهم عبد القادر قد أجهز على عنصر الاستطلاع الصربي، وأخفى جثته بهذه الطريقة بعد أن ترك علامة متفق عليها.

بعد دقائق، تأكد لي مدى الكفاءة القتالية لهؤلاء العرب، وخاصة بعد ان رأينا جثتين آخرتين لعنصري استطلاع من الصرب مخفيتين بنفس الطريقة. فقد كان المجاهدون يتحركون بخفة الاشباح ويتعاملون مع العسكريين الصرب بمنتهى السرعة والكفاءة، مستخدمين في ذلك -في مراحل ما قبل الهجوم الصريح- الأسلحة البيضاء فقط حتى لا يعلن عن الهجوم قبل التوقيت المناسب له.

كانت كل مجموعة من المجموعتين اللتين انفصلتا عن الرهط الأساسي مكلفة بتطهير المحور الذي تتولاه من عناصر الاستطلاع الصربية التي بثت فيه على أن تصل في نفس الوقت إلى هدف ثابت متفق عليه كل في منطقته، وذلك بالتزامن مع الفصيل الرئيسي للرهط.

كل ذلك كان يتم التوقيت له بواسطة ساعات ميقات خاصة، انتظارا للموعد المحدد لكي تفتح الفصائل الثلاثة اجهزة اللاسلكي الخاصة بها على نفس تردد أجهزة الموقع الصربي لكي يدور الحديث باللغة العربية التي أصبح الجنود الصرب يدركون موسيقاها، وإن كانوا لا يفهمونها.

كمنت بجانب عبد القادر قائد مجموعة المجاهدين العرب في حفرة ضمتنا نحن الإثنين وأحد المقاتلين العرب. كانت أعين عبد القادر والمجاهد الآخر مثبتة على ساعتي الميقات المشدودتين على معصميهما، حيث كانت هي دقيقتان اللتان تفصلانا عن بدء الهجوم.

كان الرجل يلقى بين الفينة والآخر بكلمات مقتضبة باللغة العربية عبر جهاز اللاسلكي الذي حمل لنا في الوقت ذاته خليطا من الكلمات العربية من فصائل المجاهدين الأخرى المشاركة في الهجوم إلى جانب كلمات هي أقرب لصرخات باللغة الصربوكرواتية من جانب أفراد الموقع الصربي الهدف، والذي باتت أمتار تفصلنا عنه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.