شعار قسم مدونات

هل ندافع عن حقوقنا باسم الإنسانية؟

تترقب أم شفيق بلهفة انتهاء معاناة النزوح والعودة إلى منزلها في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة-رائد موسى-رفح-الجزيرة نت
إننا حين ندافع عن أرضنا وعرضنا وأهلنا يجب أن نذكر أن قيمتنا ليست في كوننا مجرد أناسين وإنما هي في كوننا أولاداً لآدم ابن السماء (الجزيرة)

منذ أن بدأت المذبحة العنصرية تجاه إخوتنا في غزة وأنا أتابع الإعلام الغربي بشكل مبالغ فيه، لا لتلقي الأخبار بل لفضول سكنني لمعرفة كيف يتم تناول موضوع كهذا من قبل الأفراد والمؤسسات. والصحيح أن الأمر هذه المرة مختلف، ولربما يكون أكثر ما أنجزه صمود الشعب الفلسطيني في وجه المحتل هذه المرة هو إعادة القضية الفلسطينية إلى الوعي الدولي، بل إدخاله إلى كل بيت وكل عائلة، وجعله موضوعاً رئيساً في منسدلات وسائل التواصل المختلفة، حتى لم يعد من المقبول ألا تكون ذا رأي في القضية الفلسطينية، حتى وإن كنت أغنى أغنياء العالم، حتى لو كنت لاعب كرة ثقيل الظل، وحتى لو كنت مهرجاً تكسب قوتك من إضحاك الناس في دور القهقهة.

من يدعو إلى دعم حق أهلنا في فلسطين يدعو إليه في غالبه باسم الإنسانية وأخلاقها. ومدار تلك الأخلاق على كون الإنسانِ حيثما كان إنساناً ذا حق في الوجود والحرية وغيرها.

لقد فاجأنا جيل التواصل الاجتماعي في الشرق والغرب، فكل إحصائيات أشارت إلى ميل الأجيال الجديدة باتجاه دعم حقوق الشعب الفلسطيني في استعادة أرضه كاملة، يبدو أن ذلك نابع من ميل الجيل الجديد لرفض أفكار أسلافه القائمة على أيدولوجيات تفوق الرجل الأبيض، وحقه في اتخاذ جبال الأرض نعالاً يعلو بها على كل من تسول له نفسه الوعي بحقه أو -لا سمح الله- المطالبة به. وقد تميز في هذه العداوة أبناء منصة "تك توك" التي تحمل لدينا سمعة سيئة باعتبارها داراً لصغار العقول، فقد ظهر فيها من عقله يزن "السي إن إن" والـ "إن بي سي" معاً.  لربما لسياسة المنصة، ولربما لما يسكنه من ديمغرافيات، إلا أن المهم أن سردية العدو انهارت هناك ولم تتمكن من أن تنتشر كما فعلت في وسائل الإعلام التقليدية.

لكن ما لفت انتباهي خلال متابعتي لوسائل التواصل تقليديها وحديثها، أن من يدعو إلى دعم حق أهلنا في فلسطين يدعو إليه في غالبه باسم الإنسانية وأخلاقها. ومدار تلك الأخلاق على كون الإنسانِ حيثما كان إنساناً ذا حق في الوجود والحرية وغيرها. ولكنني –لأكون صريحاً معكم- لم أطمئن لتلك الدعوة لا تشكيكاً في نوايا قائليها، بل بسبب سجل الإنسانية في الحفاظ على حقوق أبنائها.

فالإنسانية، وأقصد بها هنا تقييم الإنسان بمجرد كونه إنساناً، لم تكن يوماً قيمة دعت إلى العدل العام، أو إلى الخير العام أو إلى الإيثار العام. الإنسانية تنتسب إلى الإنسان، والإنسان كائن مجرم إن كان مجرداً، ليس هذا ادعاء حاقد أو دعوى كاذب، فمحدثكم -حتى الآن- إنسانٌ، لكن تاريخنا الإنساني ليس تاريخاً مشرفاً في الحفاظ على بعضنا البعض، فقد قتلنا بعضنا لأتفه الأسباب، وتنازعنا على الماء والهواء والتراب والفضاء والعرض والشرف وذرات رمال الصحراء.

الإنسان ليس شيئاً، الإنسان مخلوق أَنُس بغيره فكوّن جماعة، هذا فحسب، ليس في الإنسانية قيمة إلا قيمة الأنس بالجماعة، إلا أن الأنس بالجماعة يحمل في طياته الوحشة نحو غيرها من الجماعات، والوحشية تجاهها، ومحاولة مد سلطة الجماعة المستأنسة إلى أطراف الأرض. لذلك، لربما تحمل الإنسانية في طياتها العنف والاحتلال والتدمير للغير، بنفس القدر الذي تحمل فيه الرحمة والإعمار للذات.

لأننا بنو آدم، فحقنا في الوجود والنضال ضد الظالمين حق ثقيل متنزل ثابت. أما حقنا الإنساني، فهو حق خفيف متهلهل متبخر عند أول قرار تتخذه الجماعة الإنسانية في مجلس الأمن.

ألا يمكن أن تكون الجماعة الإنسانية هي كل إنسان؟ نظرياً يمكن ذلك، لكن الحاصل غيره، والمحصول على مدى آلاف السنوات، دم متجلط على تراب، ورؤوس على أسوار المدن، وسجون سوداء من أنفاس المظلومين.

فما الحل إذن؟ الحل أن ندرك أن الإنسانية خالية من القيمة بذاتها، ونحن من يملأها بقيمها، وقد علمنا القرآن أن الإنسان أتى عليه زمان لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، إلا أنه صار شيئاً مذكوراً بالنفخة الإلهية، التي جعلت آدم وبنيه شيئاً عظيماً، تُؤمر الملائكة له بالسجود، وتنزل عليهم الرسالات. إننا حين ندافع عن أرضنا وعرضنا وأهلنا يجب أن نذكر أن قيمتنا ليست في كوننا مجرد أناسين، وإنما هي في كوننا أولاداً لآدم ابن السماء. وقيمنا في الدفاع عن الحق والخير والعدل هي قيم السماء، التي تحيي فينا الروح لمقاومة قيم الأرض من ظلم وشر وباطل.

ولأننا بنو آدم، فحقنا في الوجود والنضال ضد الظالمين حق ثقيل متنزل ثابت. أما حقنا الإنساني، فهو حق خفيف متهلهل متبخر عند أول قرار تتخذه الجماعة الإنسانية في مجلس الأمن. وعند أول إعلان للتقسيم، وعند أول شيك على بياض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.