شعار قسم مدونات

كيف نعيد العربية إلى مكانتها الريادية؟

اللغة العربية
كلما حفظ الطفل من الشعر العربي القديم كان تعلم العربية من أسهل ما يكون بالنسبة له (شترستوك)

لا شك أن حصول العربية على الريادة بين لغات العالم كما كانت قديما، يحتاج إلى تضافر الجهود على جميع المستويات، سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا.

وهذه خطوات أربع، يمكن أن تتبنّاها أي دولة عربية، وأعتقد أن من شأنها أن تحقق للعربية ريادة هائلة، على المدى المتوسط والبعيد.

إعطاء التراث العربي وعلوم اللغة العربية، الأولوية الكبرى في الدراسات الجامعية الأدبية.. إذ يوجد أساتذة جامعيون اليوم متخصصون في الأدب العربي، ومع ذلك لم يدرسوا قطّ بيتا من ألفية ابن مالك، ولا سمعوا بشواهد ابن هشام

الخطوة الأولى

ملء المقررات الدراسية، بالتراث العربي القديم، من قصص، وأمثال، وكتب، وشعر، خاصة الشعر. فكثرة تعرض الطالب للشعر، ينمّي قريحته ويقوي ملكته اللغوية.. لأن الشاعر العربي القديم، هو لغوي بالضرورة، فشعرُه عبارة عن مختارات لغوية دقيقة.. ولهذا يحرص أهل المحاظر في موريتانيا على تحفيظ الشعر القديم للأطفال، والنتيجة واضحة على خريجي المحاظر العتيقة.

فكلما حفظ الطفل من الشعر العربي القديم، كان تعلم العربية من أسهل ما يكون بالنسبة له، وليس مهما أن يفهم ما حفظه وقت الحفظ، بل المهم أن يتشرب عقله الباطن من عشرات الآلاف من الأمثلة اللغوية المنتشرة في محفوظاته، فبهذا تكون لديه سجية لغوية مستقيمة، دون أن يدرك ذلك، وأفضل وقت للحفظ هو في الطفولة، حيث تكون ذاكرة الطفل جديدة ومتقدة، وتنقص قدرة الإنسان على الحفظ كلما كبر.

الخطوة الثانية

إعطاء التراث العربي وعلوم اللغة العربية، الأولوية الكبرى في الدراسات الجامعية الأدبية.. إذ يوجد أساتذة جامعيون اليوم متخصصون في الأدب العربي، ومع ذلك لم يدرسوا قطّ بيتا من ألفية ابن مالك، ولا سمعوا بشواهد ابن هشام، والسبب أن التيار الحداثوي غلب على الأروقة الجامعية، وغلب الاهتمام بالنماذج الأدبية الغربية كالدادائية والسريالية وغير ذلك، وهذه النماذج لا ندعو لإهمالها، بل ندعو إلى دراستها والاهتمام بها، لكن يجب أن تكون في مكانة ثانوية مقارنة باللغة العربية وعلومها (النحو والصرف والبلاغة والمعجم)، فيجب أن تكون الأولوية في المحيط الجامعي، للغة العربية وعلومها. وإذا حصل العكس كما هو واقع اليوم، ستجد الكثيرين من المتخصصين في اللغة وخريجي قسم اللغة العربية، لا علاقة لهم باللغة ولا بالأدب، تماما كما رأينا أستاذة جامعية عربية، متخصصة في البلاغة، لا تستطيع أن تقرأ ورقة هي التي كتبتها، فهذا سببه أن كليات الأدب العربي -إلا ما رحم الله- تُهمل علوم اللغة، وتهتم بالمناهج الحداثية الدخيلة، فنتج عن ذلك "متخصصون" في اللغة، لا يعرفون اللغة!

ورأينا من نتائج ذلك أيضا، أن كثيرا من خريجي الأقسام الأدبية، يعرفون أعيان الأدب في الغرب ويتفاخرون بذلك، ويجهلون أعيان الأدب العربي ولا يخجلون من ذلك.

هؤلاء الأساتذة -إلا من رحم الله- تربوا في جامعاتهم على تهميش علوم اللغة العربية وتراثها، وتقديم الآداب العصرية المترجمة من الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، فهم ليسوا متخصصين في لغة العرب، بل متخصصون في النسخة العربية من الأدب الإنجليزي

الخطوة الثالثة

حماية اللغة العربية بالقوانين، وتحصينها من غزو اللغات الأجنبية.

فلا يستقيم أن نرى محلا في بلد عربي، يضع لافتة بلغة أجنبية، أو مطعما في بلد عربي، قائمة طعامه بلغة أجنبية، أو مدرسة في بلد عربي، تحرص على أن يكون تلاميذها متقنين للغة أجنبية على حساب العربية، أو بضاعة داخلة لسوق عربي، عليها ملصقات ومعلومات بلغة أجنبية، أو طبيبا في بلد عربي، يكتب وصفة بلغة أجنبية، أو بنكا في بلد عربية، يصدر وثيقة بلغة أجنبية.

التساهلُ في ذلك يؤدي إلى مجتمعات عربية مشوّهة، غريبة عن هذا العالم، الذي تحمي فيه كل دولة لغتها بالحديد والنار.

وقد رأينا بعض مجامع اللغة العربية، التي يفترض فيها أن تكون حامية للعربية، تتساهل في إدخال كل شاردة وواردة إلى العربية، وقد استدرك الناس عليها ونبهوها على خطإها.

يجب كذلك على الدولة العربية، أن تسخر كل مؤسساتها لخدمة العربية وحمايتها، تماما كما تفعل الأمم المعتزة بلغتها.

لديك مثلا الأنموذج الفرنسي، حيث تسخر الدولة كل أجهزتها لحماية الفرنسية. ففي الترجمة وحدها، تقف الدولة برمتها متصدية لكل كلمة دخيلة، حيث تعمل لجانٌ وزارية على رصد الكلمات الجديدة وتقترح ترجمات لها، ثم تُعرض تلك الترجمات على جهة أخرى هي لجنة إثراء اللغة الفرنسية لتصادق عليها، ثم تُعرض بعد ذلك على جهة أخرى هي الأكاديمية الفرنسية لتصادق عليها، ثم تُرفع بعد ذلك إلى جهة أخرى هي رئاسة الوزراء لتصادق عليها، فكما ترى: إدخال كلمة جديدة إلى الفرنسية هو قرار سياديّ، تتعاون فيه فرنسا كلها، لأن الدولة ترى حماية الفرنسية مسألة وجودية، ولا تتركها لمَجمع لغوي أو جامعة أو مؤسسة، كما هو الحال لدينا معشر العرب.

الخطوة الرابعة

فرض الرقابة اللغوية على الفن والإعلام، خاصة الفن. فالمسلسلات والأفلام العربية اليوم، تزخر بالسخرية من العربية وإهمالها، وتزخر كذلك بالأخطاء اللغوية الكثيرة، وتزخر أيضا بالكلمات الأجنبية الكثيرة التي استسلم لها هؤلاء المستلبُون: الكاتب والممثل والمخرج والمنتج، ويريدون أن يمرروها إلى المستمع العربي المسكين، لتتعود أذنه استماع الدخيل ومؤالفته.

هذا بالنسبة للأعمال الفنية التي تصدر باللهجات العربية، أما الأعمال التاريخية التي تصدر بالفصحى، فتجد الفوضى فيها كبيرة: تجد مسلسلا عباسيا أو أمويا يتكلم بلغة المسلسلات المكسيكية المدبلجة: "أنا آسف يا عزيزتي"، "أنا متضايق بعض الشيء"، "اسمح لي أن أخالفك في وجهة نظرك".. مع أن المدقق اللغوي لهذه الأعمال قد يكون أستاذا جامعيا متخصصا في الأدب العربي، لكن كما قلتُ لك في فقرة سابقة، هؤلاء الأساتذة -إلا من رحم الله- تربوا في جامعاتهم على تهميش علوم اللغة العربية وتراثها، وتقديم الآداب العصرية المترجمة من الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، فهم ليسوا متخصصين في لغة العرب، بل متخصصون في النسخة العربية من الأدب الإنجليزي، فلا غرابة إذن أن يكتبوا ويصادقوا على مسلسلات تاريخية قديمة، تشعر وأنت تسمعها أنك تسمع ترجمة جوجل!

هذه إذن هي الخطوات الأربع: الأولى متعلقة بالتعليم الأولي والمتوسط (ملء المقررات بالتراث العربي)، والثانية متعلقة بالتعليم الجامعي (إعطاء علوم اللغة والتراث العربي، الأولوية الكبرى، وليس للآداب العصرية المترجمة)، والثالثة على المستوى التشريعي والتنفيذي (حماية اللغة العربية وتحصينها بالقوانين وعمل أجهزة الدولة على تنفيذ تلك القوانين)، والرابعة في مجال الفن والإعلام وصناعة الترفيه (خضوع الأعمال الفنية للرقابة والتنقيح والتصحيح، ومعاقبة الأعمال التي تنتقص من العربية أو تسخر منها أو تعمل على نشر الكلمات الأجنبية على حساب العربية).

قد توجد خطوات أخرى مهمة، لكن هذه الخطوات الأربع، أرى أنها من أهم ما يمكن أن يعيد للغة العربية مكانتها وألقها في العالم، كما كانت في القرون السابقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.