شعار قسم مدونات

حديث عنا.. عن لغتنا في اليوم العالمي للغة العربية

تصميم اللغة العربية
ما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلا من ناحية الجهل بأساليب اللغة (الجزيرة)

اللسان هو حياة الأمة، لا حياة لأمة بغير لسان، واللسان كالنهر الجارف يجمع كل محصول الأمة، وهو كالغيث، منهمر آلاف القرون ليتكون منه هذا النهر العظيم.. فإذا انقطع هذا النهر فقد وقعنا في أكبر خيبة.

إن اللغة العربية معجزة الذهن البشري، وأعجوبة التاريخ في عصوره كلها، وإذا كان التاريخ يذكر ولادة كل لغة، ويعرف مراحل نموها، ومدارج اكتمالها، فإن العربية أقدم قدما من التاريخ نفسه، فلا يعرفها إلا كاملة النمو، بالغة النضج. فمتى ولدت؟ ومتى كانت طفولتها؟ ومتى تدرجت في طريق الكمال حتى وصلت إلينا كاملة مكملة لم تحتج إلى تبديل أو تعديل، بل لقد أمدت بما زاد عنها من ألفاظها أكثر لغات الأرض، ففي كل لغة منها أثر. علي الطنطاوي.

أردت في هذه الكلمات أن أتحدث عن العربية، اللغة الأبهى والأنقى، فوجدتني عاجزا عن الحديث عنها وحرت، أين أبتدي وأين أنتهي! فقررت أن أورد هنا مقتطفات من كلام ثلاثة من أمراء البيان وأساتذة الأجيال، هم: محمود شاكر ومصطفى لطفي المنفلوطي وعلي الطنطاوي.

الكلام صلة بين متكلم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من العلو والإسفاف، فإن أردت أن تكون كاتبا فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك.

  • المنفلوطي

محمود شاكر

العربية في خطر داهم، حقيقة واقعة.. نعم. ولكنها جزء يسير من الحقيقة المفزعة الكبرى، لأن الخطر الذي يحيط بالعربية، لا يحيط بها منفصلة عن أصحابها، أصحاب اللسان العربي نفسه، وراثة وانتماء، ثم هو لا يحيط بأصحاب اللسان العربي، منفصلا عن حاضرهم، ولا عن مستقبلهم في هذه الدنيا الواسعة المتصارعة، ولا عن تاريخهم العريق الغائر في أغمض الآباد المتقادمة على طول القرون ولا عن حضاراتهم الغابرة والباقية التي بسطوها على أوسع رقعة من الأرض، من أقصى المغرب غربا، إلى جوف الصين شرقا، ومن قلب أوروبا شمالا إلى أطراف القارتين الإفريقية والآسيوية جنوبا، واستقرت فيها عشرات من القرون، تضيء ثم تكمن ثم تضيء. (جمهرة مقالات محمود شاكر).

المنفلوطي

الكلام صلة بين متكلم يفهم، وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من العلو والإسفاف، فإن أردت أن تكون كاتبا فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك.

وما أصيب البيان العربي بما أصيب به إلا من ناحية الجهل بأساليب اللغة، ولا أدري كيف يستطيع الكاتب أن يكون كاتبا عربيا قبل أن يطلع على أساليب العرب في أوصافهم ونعوتهم، وتصوراتهم ومساجلاتهم، وقبل أن يعرف كيف كانوا يعاقبون ويؤنبون، ويعظن وينصحون ويتغزلون وينسبون، ويستعطفون ويسترحمون، وبأية لغة يحاول أن يكتب ما يريد إن لم يستمد تلك الروح العربية استمدادا يملأ ما بين جانحتيه حتى يتدفق مع المداد من أنبوب يراعته على صفحات قرطاسه. (مؤلفات مصطفى لطفي المنفلوطي الكاملة).

لغتنا العربية، وهي أكمل لغات البشر، وأجودها مخارج، وأضبطها قواعد، ذات القياس المضطرد، والأوزان المعروفة، قد أضاعها أهلوها وأهملوها، لم يكفهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناس كما فعل أجدادهم من قبل، بل هم قد تنكروا لها، وأعرضوا عنها

  • علي الطنطاوي

علي الطنطاوي

قرأت في (رسائل سائر) للعالم المصري محمد سليمان رحمه الله، أنه ضل في شوارع أثينا، فكان يسأل من يعرف أنه يعلم العربية فيفهم عنه بها، ولكنه يرد باليونانية، اعتزازا بها وعصبية لها. وسمعت ممن ساح في تركيا، أنك لا تلقى فيها لوحة واحدة بلسان أجنبي عنها، ولا تستمع فيها إلا الحديث بلسانها.

وهذا دأب كل أمة حية في الدنيا، تعتز بلسانها، وتحرص على لغتها، وتعدها أولى مفاخرها، وعماد استقلالها، فما لنا نحن نتظرف بالرطانة بلغات غيرنا، ونحسب ذلك تمدنا ورقيا؟ (مقالات في كلمات- ص 169).

ولغتنا العربية، وهي أكمل لغات البشر، وأجودها مخارج، وأضبطها قواعد، ذات القياس المضطرد، والأوزان المعروفة، قد أضاعها أهلوها وأهملوها، لم يكفهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناس كما فعل أجدادهم من قبل، بل هم قد تنكروا لها، وأعرضوا عنها، وجهلها حتى كثير ممن يدرسها، وجهلها حتى كثير ممن يدعون الأدب فيها، وأين اليوم من أدباء العربية كلهم من يروي من الشعر مثل رواية الشنقيطي؟ أو يعرف من علوم العربية مثل معرفة حمزة فتح الله؟ أو يحفظ من نوادر نصوصها مثل حفظ النشاشيبي لها؟

لقد كدنا نجهل لغتنا، ومن شك فليمتحن نفسه، فليفتح لسان العرب وليقرأ فيه عشرة أبيات متتابعة من شواهده، من أي صفحة شاء، فإن فهمها كلها، واستطاع أن يشرحها، أو فهم نصفها أو ربعها واستطاع أن يشرحه، فأنا المخطئ ومن يرد علي هو المصيب. (فكر ومباحث- ص 7- 8).

تعيش الأجيال صراعا لغويا حقيقيا بين الحفاظ على الهوية والانتماء إلى العربية، والشعور بأهمية الانفتاح اللغوي على العالم بإتقان أهم اللغات العالمية، غير أن إتقان لغة كالإنكليزية مثلا لا يتعارض مع حفاظ المرء على هويته ولغته وأصالته

  • إيناس بويس

أضعتم بلادكم بإهمالكم لغتكم

وفي كتابه فكر ومباحث ينقل علي الطنطاوي من قصة "الدرس الأخير" لـ "الفونس دوده" فيقول ودمع العين منسكب على هذه الكلمات ويتقطع الفؤاد عند هذا المشهد: أولاي، هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق، لان بلادكم قد احتلها الألمان (وكان ذلك في حرب السبعين) وصارت دروسكم باللغة الألمانية فلا فرنسية بعد اليوم. وخنقته العبرات، فما استطاع أن يتم كلامه.

فعاد يقول: والآن: اصغوا إلي لألقي عليكم (الدرس الأخير) باللغة الفرنسية، وقم أنت يا فلان.

قال الصبي: فما سمعت اسمي حتى ارتجفت ووقفت ساكتا، ولم أكن قد حفظت درسي، فقال لي الأستاذ: اقعد، أنا لا أعنفك ولا أعاقبك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم وسلمتموها إلى عدوكم بإهمالكم لغتكم. انتهى النقل.

ختاما

وأقبس هنا من مقال نشرته الدكتورة إيناس بوبس قبل أيام، فتقول: تعيش الأجيال صراعا لغويا حقيقيا بين الحفاظ على الهوية والانتماء إلى العربية، والشعور بأهمية الانفتاح اللغوي على العالم بإتقان أهم اللغات العالمية، غير أن إتقان لغة كالإنكليزية مثلا لا يتعارض مع حفاظ المرء على هويته ولغته وأصالته، بل يخدم انتماءه، لكن التردد بين الحفاظ والانطلاق نحو التجديد هو ما يؤدي إلى شعور المرء بالقلق حيال أصله وهويته.

ومن المؤسف أننا نحن -العرب- نمثل المغلوب في قول ابن خلدون حين تحدث عن ظاهرة الغلب فقال: "إن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده".

وأعود إلى سيد كتاب العصر مصطفى لطفي المنفلوطي وأختم بما قاله: إني لا أرى لك يا طالب البيان العربي سبيلا إليه إلا مزاولة المنشآت العربية، منثورها ومنظومها، والوقوف بها وقوف المتثبت المتفهم لا وقوف المتنزه المتفرج. فإن رأيت أنك قد شغفت بها وكلفت بمعاودتها والاختلاف إليها، وأن قد لذ لك منها ما يلذ للعاشق من زورة الطيف في غرة الظلام، فاعلم أنك قد أخذت من البيان بنصيب، فامض لشأنك، ولا تلو على شيء مما وراءك، تبلغ من طلبتك ما تريد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.