شعار قسم مدونات

الدولة القُطرية الحديثة تمنع إنقاذ الأقصى!

تحت ذريعة "محاربة الإرهاب"، قانون إسرائيلي يحظر أي استهلاك أي مضامين ومحتوى لحماس أو "داعش".
لم ييأس الفلسطينيون من محاولة سحب المنظومة العربية رسميا وشعبيا نحو تحمل مسؤولية شرعية وقومية وأخلاقية (الجزيرة)

أما وقد احتفلت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هذا العام بذكرى انطلاقتها السادسة والثلاثين بطريقة مختلفة تماما عن كل ما سبق من سنين؛ وفي ظل استمرار تصدرها لمعركة "طوفان الأقصى" التي أطلقتها في السابع من أكتوبر الماضي، دون أن تبدو مؤشرات قوية أو لنقل كافية لتحرك الأمة وتوجه بوصلتها نحو القدس، فنستكمل حديثنا الذي بدأناه في المقال السابق حول أحد الأهداف المركزية لحركة حماس، وهو إيقاظ الأمة لتأخذ دورها المطلوب شرعا وعرفا وأخلاقا في الذب عن فلسطين وشعبها.

الهوية الوطنية الفلسطينية عانت حالة من الارتباك والاضطراب حتى تبلورت، والسبب هو محاولة العديد من الأنظمة العربية طمسها والسيطرة عليها؛ ذلك لأن الفلسطينيين منذ ثوراتهم الكبرى ضد سلطات الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، حرصوا على التأكيد على أنهم جزء من الأمة العربية

هوية فلسطينية دونها هويات عربية في واد آخر

تم إشهار حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" في الأول من كانون الثاني-يناير لعام 1965م، ليكون أحد أوائل شهدائها بعد عام واحد الأربعيني "جلال كعوش"، الذي اعتقله رجال المكتب الثاني في لبنان وعذبوه حتى فارق الحياة.

وقتها كانت الدولة اللبنانية وأجهزتها قوية ومتحكمة شأنها شأن بقية الدول العربية، وهي لم تفعل ذلك خدمة لإسرائيل وكرها بفلسطين بالضرورة، ولكن خدمة لمصالح مفترضة للدولة اللبنانية، ترى بأن العمل المقاوم، يضر بمصالح هذه الدولة ويعرضها لخطر كبير.

هذه النظرية تحولت إلى ما يشبه العقيدة تجاه كل من يريد مقاومة إسرائيل من أية دولة عربية، وتتسلح النظرية أن هذا المنع وهذه الحيلولة دون مقاومة إسرائيل هي تصرف "حكيم"، من الدولة العربية الوطنية القُطرية يخدم شعب فلسطين ويصب في صالح قضيتها.

جلال كعوش، وهناك غيره سواء اعتقلوا أو عذبوا وقضوا أو بقوا أحياء في سجون العديد من الدول العربية، ليسوا من الإخوان المسلمين، وبعضهم ليس من التيار الإسلامي، بل قد يناصبه العداء، ولكن الدولة العربية الحديثة "دولة ما بعد الاستعمار الأوروبي" تبنت فكرة منع الفلسطيني من مقاومة إسرائيل انطلاقا من أرضها، ومنع من يريد مقاومتها من أبناء تلك الدولة – بغض النظر عن اسمها- باستخدام القبضة الأمنية الفولاذية، والدعاية الإعلامية المزايدة المتهِمة لهؤلاء بتعريض مصالح "الوطن" للخطر وربما حتى وصمهم بالخيانة والعمل لصالح الاستعمار والصهيونية.

لذا وجدنا أبناء الإخوان المسلمين في مصر الذين قاتلوا في فلسطين أيام النكبة الكبرى عام الـ 1948م توضع الأصفاد في أيديهم ويزج بهم في سجون النظام الملكي في مصر، بُعيد معارك شهد حتى خصومهم أنهم أبلوا فيها بلاء حسنا.

لم يختلف النظام الجمهوري الذي انقلب على الملكية في مصر كثيرا، فقد حاول الهيمنة على حركة فتح، ولا مجال لشرح هذه المسألة، فيما رُفض طلب الآلاف من الإخوان المسلمين الذين زجّهم في سجونه وأجبرهم على تكسير الحجارة على المشاركة في معارك حرب العدوان الثلاثي في عام الـ 1956م.

الهوية الوطنية الفلسطينية عانت حالة من الارتباك والاضطراب حتى تبلورت، والسبب هو محاولة العديد من الأنظمة العربية طمسها والسيطرة عليها؛ ذلك لأن الفلسطينيين منذ ثوراتهم الكبرى ضد سلطات الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، حرصوا على التأكيد على أنهم جزء من الأمة العربية، لدرجة تسليم قرارهم السياسي للدول العربية التي لم تنكر ثقتها ببريطانيا باعتباره "صديقة".

بعيد النكبة الكبرى اكتشف الفلسطيني أن هويات وطنية قُطرية نبتت وترسخت في المحيط العربي لا تقتصر على علم ونشيد وطني، بل حالة نفسية واجتماعية مدعمة بإطار سياسي ومفاهيم ومصالح لا تلتقي بالضرورة برغبة الفلسطيني في تحرير أرضه، بل قد تصطدم معها بعنف.

مع ذلك لم ييأس الفلسطينيون من محاولة سحب المنظومة العربية رسميا وشعبيا نحو تحمل مسؤولية شرعية وقومية وأخلاقية، لأن فلسطين لم تكن دولة مستقلة قائمة بذاتها احتلتها العصابات الصهيونية وأقامت "إسرائيل" فوق ثلثي أرضها؛ بل انهزمت جيوش عربية -بغض النظر عن حجمها- أمام تلك العصابات، وأحجم العرب عن إعطاء الفلسطينيين سلاحا يذودون فيه عن أرضهم، والرسالة المتداولة للشهيد عبد القادر الحسيني الموجهة للأمين العام لجامعة الدول العربية خير دليل وشاهد على هذه الحقيقة.

 

حركة حماس التي تحمل أيديولوجيا لها امتداد متجذر في العالم العربي والإسلامي، درست تجربة فتح وعموم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية واتبعت نهجا مختلفا، يقوم على تركيز الفعل المقاوم في داخل جغرافية فلسطين المحتلة

حماس نجحت أكثر من فتح ولكن..!

اتبعت حركة فتح سياسة "التوريط الواعي" للأنظمة العربية في الصراع مع إسرائيل، ولكنها لأسباب كثيرة لا مجال لسردها لم تفلح في ذلك، ولكون ثقلها العملياتي والعسكري كان خارج جغرافية فلسطين فقد أخفقت في هدفها أيضا، وتخلت تماما عن هذه السياسة.

حركة حماس التي تحمل أيديولوجيا لها امتداد متجذر في العالم العربي والإسلامي، درست تجربة فتح وعموم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية واتبعت نهجا مختلفا، يقوم على تركيز الفعل المقاوم في داخل جغرافية فلسطين المحتلة، سواء أكان إلقاء حجر أو إطلاق صاروخ، وأن يكون دور الخارج هو الدعم واستثمار الأمر في الساحات العربية.

تجنبت حماس الدخول في دهاليز الشؤون الداخلية للدول العربية، ولذا وجدنا حافظ الأسد وهو منفذ المجازر بحق إخوان سورية، يستقبل إخوان فلسطين ويسمح لهم -وابنه من بعده- بالعمل بحريّة في بلد يحكمه بقبضة بوليسية، وطبعا يستثنى من ذلك تنفيذ أي عملية ضد إسرائيل انطلاقا من الأراضي السورية.

أعطت حماس صورة حسنة عن الفلسطينيين عموما وعن نفسها خصوصا؛ متجنبة صورا سلبية أخذت عنهم بسبب تصرفات بعض عناصر فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وقد بدأ تواصلها المباشر مع الشعوب العربية عقب إبعاد مئات من كوادرها وعناصرها إلى لبنان حيث أقاموا مخيمهم قرب بلدة "مرج الزهور" في جنوب لبنان، وحين تواصلوا مع سكان المنطقة عالج الأطباء من المبعدين مرضى القرى المحيطة، بغض النظر عن طوائفهم، وقدموا من فائض المساعدات التي وصلتهم إلى الفقراء من تلك المناطق، وقد سمعوا من الأهالي كلاما يفيد بتغير نظرتهم – نحو الأفضل- إلى الفلسطينيين بسبب ذكريات سلبية سابقة.

ساعد إخوان الدول العربية – وفق ما تسمح به الأنظمة – بنشر رؤية حماس في الشارع العربي، ولكن حماس بفعلها المقاوم تجاوزت مبكرا الإخوان في هذه المسألة، بحيث تجد من يكره إخوان بلده ولكنه يحب حماس ومستعد أن يقاتل في صفوفها إذا أتيحت له الفرصة، فيما دخل رموز حماس بيوت الدول العربية، وصاروا أيقونات مثل الشيخ أحمد ياسين والمهندس يحيى عياش وصولا إلى محمد ضيف وأبي عبيدة.

مع كل النجاح الذي حققته حماس قياسا بفتح منافسها الأكبر في الساحة العربية، ظل التحرك العربي تجاهها وتجاه قضية فلسطين محدودا بسقف لا يخطو خطوة تذكر في مسيرة التحرير، أو حتى خدمة صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني.

الحقيقة التي نتهرب منها.. إن الحقيقة التي نتهرب من مواجهتها هي أنه حين تضعف الدولة القُطرية العربية تقوى شوكة المقاومة والعكس صحيح، وهذا ما يحتاج لتبيين وشرح قادم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.